مقولة الاستراتيجي البروسي الشهير كلاوزفيتر، بأن الحرب هي السياسة أو الامتداد للسياسة بوسائل أخرى، تنطبق على الحرب الراهنة في غزة وفلسطين انطباق النقش في الشمع. لا نستطيع أن نضع ما حدث في السابع من أكتوبر من تحرير مساحة من أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 وما ظهر من تطوّر في حركة الصراع حول فلسطين وفي قدرات وعناصر قوة الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية، بأنه عملية عسكرية مذهلة ونصر عسكري كبير وحسب. لكننا في حال ربطنا ما حدث في هذا اليوم من انتصار لأهل فلسطين وما سوف يليه في مراحل الحرب في فلسطين وما حولها، تتكشّف لنا المعاني السياسية لهذه الحرب، باعتبارها حرب تحرير وعودة الشعب الفلسطيني إلى قلب الصراع وكأننا في مرحلة تشبه صراع البدايات وصراع الوجود بعد خمس وسبعين سنة على احتلال فلسطين.
ثمّة ما يشبه الإجماع الإقليمي والدولي على أن أهداف عملية السابع من أكتوبر هي إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية وعودة الفلسطينيين إلى بلادهم تنفيذاً لهدف حق العودة. هذا الهدف السياسي في حده الأدنى، وهو ما صار متداولاً في المباحثات السياسية والديبلوماسية وفي وسائل الإعلام ومراكز الدراسات والأبحاث، والتي تبحث عن أهداف هذه الحرب وما سوف يحدث من متغيرات سياسية حين يقف إطلاق النار وتضع الحرب أوزارها؛ في معنى الشكل السياسي للحرب، في صورة الأهداف التى تصنعها في ميدان القتال.
الحراك الديبلوماسي الغربي الأميركي والأوروبي تحرّك على قواعد عدة في زيارات رؤساء الدول والحكومات من أميركا وأوروبا ووزراء الخارجية والدفاع وما جرى في الأمم المتحدة وفي جلسات مجلس الأمن الدولي، وهي:
1- تقديم الدعم المادي والمعنوي لدولة إسرائيل بعد الهزيمة الكبرى التي منيت بها.
2- تركيز الحرب على غزة وحركة «حماس» ووصفها بأنها حركة إرهابية وأنها «داعش فلسطين».
3- تبرير الأعمال العسكرية الإسرائيلية في التدمير والقتل وارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، وإدارة الظهر لكل هذ الأعمال التي يحرّمها القانون الدولي ويعاقب عليها المعتدين.
4- العمل على عدم توسيع رقعة الحرب إلى حرب إقليمية، شبه دولية، حتى لا يظهر ضعف العدو، وحمايته من حرب سوف يخرج منها مهزوماً وقد تؤدي إلى نهاية الاحتلال.
في الجانب العربي، من مؤتمر عمّان الذي أطاحته مجزرة مستشفى المعمداني إلى المؤتمر الدولي في القاهرة إلى مواقف الدول العربية التي تربطها علاقات ديبلوماسية مع دولة الكيان الصهيوني، والتي تذهب إلى التطبيع معه، هذه الدول العربية تدعو إلى حل الدولتين وإلى اعتماد الخطة العربية للسلام وإلى منع تهجير سكان غزة. وتبقي الموقف من مستقبل حركة «حماس» في منطقة رمادية، ويمكنها القول إن الأمر يقرّره الشعب الفلسطيني.
حركة الدول العربية تبني على ما تراكم من نتائج الحروب في الصراع العربي الصهيوني حول فلسطين، وعلى حركة التسويات من صلح السادات إلى مؤتمر أوسلو إلى وادي عربة وإلى حركة التطبيع، وما أنتجه الصراع على السلطة في «الربيع العربي» وكذلك الصراع مع الإرهاب التكفيري، والحرب الكونية على سوريا، والحرب الأميركية السعودية على اليمن وتردداتها في المنطقة ودورها في تشكل مستقبلها السياسي، وذلك بعد الغزو الأميركي للمنطقة الإسلامية والعربية من أفغانستان إلى العراق.
هذا جانب من مواقف النظام الإقليمي العربي المنقسم على نفسه، والذي يعبّر عنه الوضع المتهالك لجامعة الدول العربية وصراع المحاور ومصالح الأنظمة المتعددة المحاور في العلاقات الدولية، وفي الموقف الإسلامي يتكوّن من إشكاليّة الدور التركي وحركة النظام الدولي لـ«الإخوان المسلمين» وهو أقرب إلى توجّهات حلّ الدولتين.
الموقف الآخر المقابل لكل ما ذكر من مواقف الأنظمة والدول العربية والإسلامية، هو موقف دول محور الممانعة الذي تقوده عملياً الجمهورية الإسلامية في إيران وتبرز فيه قوة سوريا والعراق واليمن والمقاومة الإسلامية في لبنان والمقاومة الفلسطينية. موقف هذا المحور هو السند القوي للموقف الفلسطيني، لكنه يتمايز عنه في خصوصية الساحات ضمن وحدة الساحات، كما أن «النفس في وحدتها كل القوى» كما يقول الفلاسفة. بمعنى أن الهدف الفلسطيني من الحرب هو الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني وقيام دولة فلسطينية مستقلة، خطوة على تحرير فلسطين، فيما تضيف أهداف دول المحور إلى ذلك مقاومة النفوذ الأميركي في المنطقة ورفع الحصار عن سوريا ونظام العقوبات، وكذلك إيقاف حرب اليمن وإعادة البناء في كل من اليمن وسوريا وبناء نظام إقليمي عربي إسلامي مستقل وقوي ومتحرّر من السيطرة والهيمنة في غرب آسيا.
وعليه، نفهم تركيز الولايات المتحدة الأميركية على عدم توسّع الحرب إلى حرب إقليمية لأنه عندها تتوسّع الأهداف السياسية للحرب نفسها؛ تتدحرج الحرب إلى حرب شاملة وتتدحرج معها الأهداف السياسية إلى أهداف شاملة لكل منطقة الشرق الأوسط.
يستفاد مما ذكر أن الصراع في الحرب الآن هو في وجههه الأصلي صراع بين المقاومة الفلسطينية والعدو على أهداف سياسية تتعلّق بفلسطين، من حرب التحرير إلى قيام الدولتين. وأذهب إلى أن الحد الأدنى منه في حل الدولتين سوف يحصل مهما جرى في عمليات الحرب، رغم أن المتطرفين في كيان العدو يريدون تهجير الشعب الفلسطيني مرة أخرى وقيام دولة يهودية صافية وعدم الاعتراف بأيٍّ من الحقوق للشعب الفلسطيني، وهذا ما تخشاه أميركا وأوروبا والدول العربية الحليفة لها، لأنه هدف خطير ويشعل المنطقة في حرب طويلة الأمد وفي صراع وجودي حقيقي.
وإنّ توسيع رقعة الحرب مع وجود حرب في أوكرانيا سوف يوسّع أهدافها لإعادة صياغة إدارة النظام الدولي وكسر هيمنة أميركا ونظام القطب الواحد. وهنا تصبح المعركة في فلسطين، مع حرب أوكرانيا، صورة عن حرب عالمية ثالثة يتم على نتائجها تنظيم إدارة النظام الدولي خارج الهيمنة الأميركية وقيادة القطب الواحد للعالم.
حرية فلسطين وتحريرها حرية العالم وتحريره من قطبية إدارة أميركا للعالم، ونهوض عالم تحقّق فيه الشعوب حرّيتها وتقرّر مصيرها.

* كاتب ووزير سابق