أصبح من المتكرّر أن يستهلّ المثقّف العربي كلامه بـ«بعيداً عن الشعاراتية»، قبل أن يكمل بكلام بنبرة أكاديمية يراد منها استمالة «العقلانية» و«الموضوعية». ففي خطابنا العربي السياسي، تم، بشكل منهجي، تصدير ألفاظ كـ«الشعاراتية» و«الشعبوية»، وبغضّ النظر عن تفصيل ماهيّة التعريف المطروح لكلا اللفظين، إلا أنهما، من دون شك، يمثّلان لفظين فوضويين يحتويان الكثير من التحليل، لكنهما في نهاية المطاف خاويان. فالغرض من استخدامهما ودورهما هو نعت نخبوي يعكس بأنني أنا المثقّف بالأدوات الأكاديمية أتسلّح بالعلم والعقل، أمّا أنت على الطرف الآخر فمجرّد مردّد شعارات وتستميل العواطف بخطاب «شعبوي». يستهدف المثقّف تصوير النقاش بين نقيضين، العقل والعاطفة، ويبرز هذا الخطاب كثيراً مع تعامل نخب رؤوس الأموال الخليجية مع حركات المقاومة العربية.
الأصل في هذا التباين طبقي، لكن لا يكفي مجرّد قول ذلك، فقد شكّلت هزيمة عام 67 السلّم الذي تسلّقته الليبرالية العربية، فاستغلتها للتنفير من أي خطاب يحمل سرديات رومانسية كبرى ترنو إلى التغيير، وكانت الطبقات العربية الحاكمة تساهم في الدور ذاته عبر تبنّي شعارات تستميل الجمهور ضمن الدعاية السياسية وكرافعة لشرعية هذه الأنظمة. والسؤال الذي يطرح هنا، هل يمكننا حصر سبب هذا النفور في الصدمة وتراكم العقود من الخطابات الرنانة والفارغة للأنظمة العربية وإذاعاتها وعناوين البنط العريض لصحفها؟ الإجابة المباشرة هي: لا.
أولاً، من التكرار المملّ إعادة الحديث كيف أن الهزيمة العربية تحوّلت إلى انهزامية ومشروع سياسي بحد ذاته، تقوم على دعائمه ثقافة رأس المال العربي - الخليجي. بل حتى حين رفع فقراء العرب شعارات كبرى في الأزقة والقرى ومن ثم حوّلوها إلى انتصارات تاريخية، من تحرير جنوب لبنان وغزة ومراكمة للقوة بصد العدوان الصهيوني المتكرر - بل والمبادرة والهجوم عليه - فإن هذه الثقافة السياسية لم تتغير، إلى درجة أن خطاب الواقعية السياسية ومردديه أو الذين يجبنون عن تبنّي مراجعات لتحليلهم لمجريات العقد العربي الأخير اليوم يعيشون حالة نكران لما حولهم.
هنالك حالة عامة تتعدّى الوطن العربي، وهي حالة عالمية للنخبة الأكاديمية الغربية، ولندع العلوّ والتكبّر هنا جانباً، فالمسألة تكمن في افتراض أن التحليل الموضوعي والعقلاني يسمو على ما دونه بالضرورة، إلى حد أن يتحوّل هذا التحليل العلمي إلى هدف بحد ذاته. فالأكاديمي والمثقف لا يريد تغيير الحدث، بل كل ما في المسألة هو نشوة التحليل للحدث وتلبية الفضول الأكاديمي، وحتى وإن تحدّث عن الاستعمار فهو مستعد لتحليل الوضع الاستعماري في القدس مثلاً لساعات - وفي أغلب الأحيان سيصيب في التحليل - فلا أحد ينفي نجاعة استخدام أدوات منهجية ومعرفية للتحليل، لكن جوهر المسألة أن هذا التحليل لا يغيّر التاريخ، بل إن الشعار هو ما يغيّره.
بالعودة إلى الامتياز الطبقي، فإن العلاقة بين القدرة وترف الوقت للتحليل والموقع الطبقي ليست مصادفة، بل إن جزءاً أساسياً في كون الشعار يخيف ويتحوّل إلى شعاراتية يجب أن تحارب هو في أن الشعار يريد أن يغيّر التشكيل الطبقي القائم. ويضاف إلى ذلك عامل آخر، وهو أنك حتى تملك شعاراً أو تحتاج إليه يجب أن تكون ضمن حركةٍ ولك جماهير على الأرض تردّده وتسمعه، إلا أن الثقل الثقافي النخبوي العربي لا جماهير له، له جمهور مستهلك جلّه من الطبقة الوسطى، لا جماهير مشتبكة. وحتى حين تبنّي حالة من رفع الشعار ضد الاستبداد، فإنّ المسألة كانت ضمن صراع سياسي يجنّد فيه استبدادٌ عربي مثقفين ضد استبداد عربي آخر، لمصالح سياسية ودولية ضمن العلاقة بالولايات المتحدة.
يجب أن نستفيض أكثر هنا حول المقصود بالشعار؛ هو الخطاب السياسي الذي يستهدف جمهوراً ويحضّه على تبديل الواقع إلى واقع آخر، هو الحلم، هو رحلة البحث عن المستحيل بتعبير سمير القنطار، أي في تاريخنا العربي المعاصر تحرير فلسطين، والوحدة العربية، والتنمية المستقلة لبناء منظومتنا السياسية بشروطنا. ولتحقيق هذه الأهداف، نحتاج إلى حركة، أو إلى حركات لها جمهور يردّد شعارات بسرديات كبرى. ثم إن الشعار هو شرط وجود لبناء حركة اجتماعية؛ الجانب المعنوي والعاطفي والروحي هو أصل، حتى تتمكن أي حركة شعبية من الصمود وتغيير التاريخ، وهذا ما حدث ويحدث عربياً. فالاستنفار العاطفي بالنشيد والصورة والشعار هو أحد أسلحة المعركة الأساسية. يكفي أن نرى كيف كيّف أعداؤنا هذه الأدوات. لكن النظر إلى الصهيونية كعدوّ والتحشيد ضدّها أمر يقع في عالم لا يعيش فيه الناشطون والمثقفون العرب، وإن حدث فهو «شعاراتية» و«شعبوية»؛ في امتداد، أو نسخة رديئة، لموجة الواقعية السياسية التي تؤول إلى خيارات التسوية والاستسلام.
على الرغم، بل وبسبب، صوت معركة «طوفان الأقصى» والصدى الذي جعل الغرب عارياً متحزّباً منكشفاً، لم يخرس الليبراليون العرب، ولماذا يخرسون بالأصل؟ فالصراخ على قدر الألم


أمّا عن تناقض العقل والعاطفة، فخطر لي الاستدلال بالفلسفات والشواهد التاريخية واستدعاء الجدلية الهيغلية والحديث عن دور الشغف والعاطفة في صيرورة التاريخ... إلخ، ثم توقفت لأستوعب من جديد أن الخلاف هنا ليس حول كيفية تغيير التاريخ، بل بين من يريد تغييره وبين جزء من تاريخ الآخرين على أرضنا، تاريخ آلية تراكم رأس المال في الغرب. فكلما استرسلت بقراءة أدبيات النخب العربية وأبدأ بترديد حجج مضادة في رأسي على تهافت ما يطرح، أستدرك، وأستذكر غسان كنفاني، ليس قوله بأن خلف كل فكرة نبيلة عاطفة، ولا أنه أحذق من شهد الليبرالية العربية وهي تتسلق سلّم هزيمة 67 عتبة عتبة لتتصدر الخطاب السياسي العربي اليوم وبأبشع صوره، بل في قوله إن خلاصة كل سنوات عمره استيعابه أن كل الجهد الإعلامي والصراع الثقافي لا يغيران شيئاً أمام الانتصار على أرض المعركة. فكل ما يحصل على هامش التاريخ من نكران للمراكمة العسكرية لحركات المقاومة وعقد للنية والعمل لخوض معركة مصيرية ضد المشروع الصهيوني، وكل التشييد الضخم للإمبراطورية الإعلامية والثقافية الخليجية، يتهاوى أمام عملية خوض المعركة. للمفارقة، دار التاريخ: كل خطاب ذمّ وسخرية من شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» سيخرسه صوت المعركة القادمة، وسلّم 67 سيكسر.
كتبت الكلمات السابقة قبل السابع من أكتوبر، وأعترف بأنني أخطأت، وليعذرني المرحوم الدكتور السوداني محمود محمد طه، فمن الواضح أننا كلما أسأنا الظنّ بالليبرالية العربية اكتشفنا أننا نحسن الظنّ بها. فعلى الرغم، بل وبسبب، صوت معركة «طوفان الأقصى» والصدى الذي جعل الغرب عارياً متحزّباً منكشفاً، لم يخرس الليبراليون العرب، ولماذا يخرسون بالأصل؟ فالصراخ على قدر الألم، والافتراض أن صوت المعركة سيسكتهم افتراضٌ خاطئ، وساذج، فهم ليسوا على جانب المعركة، بل أحد الأذرع الغربية للصراع، هم جزء منه، وإخراسهم ولجم تهافتهم هو أحد أهداف المعركة وليس أثراً جانبياً لها. وذلك بحدّ ذاته إثبات عملي أن صراعنا ضد الغرب، ككتلة تاريخية اقتصادية - عسكرية جبارة لها غطاء ثقافي وأيديولوجي وأتباع ومتعاونون ومتواطئون على أرض المعركة، علينا خوضه على كل صعيد.

* كاتب عربي