ما تحاول الولايات المتحدة جرَّ المنطقة إليه، عبر قيادة الموقف الذي يعبّر عنه «مجلس الحرب الصهيوني»، ليس الحفاظ على الوظيفة التي تمثّلها «إسرائيل» في الإقليم فقط، بل أيضاً منع الوظائف الجديدة التي أفضى إليها انهيار الإقليم وانتقال قيادته إلى الخليج، من التداعي، بدورها. فمسار التطبيع الذي قاد إلى إبرام اتفاقيات «أبراهام»، لم يكن ممكناً من دون إزالة الاعتراضات الجزئية، التي كانت تمثّلها بقايا النُظُم الجمهورية التي أُطيح بها، أو أُضعِفَت إلى الحدّ الأقصى، في العشرية الأخيرة. حتى مسار مدريد الذي وافقت عليه هذه الدول، تحوَّلَ بعد مسخه إلى اتفاقيتَي «أوسلو» و«وادي عربة»، ثمّ مبادرة السلام العربية في عام 2002، إلى عبءٍ على الواقع الجديد الذي أفضى إليه الانهياران السياسي والاقتصادي للإقليم. التصاعُد الذي كان يحدث في وحشية الاحتلال، مع كلّ جولة جديدة من القتال مع المقاومة، كان نتاج هذا التآكل في شرعية النظام العربي، لجهة موقفه من المسألة الفلسطينية بالمُجمَل. لكن ثمّة وجهٌ آخر لهذه الديناميّة، وهو نتاج الانهيار نفسِه، وحصيلتُه تقع على المقلب الآخر من المسألة. بمعنى أنّ استفادة المقاومة، سواء في فلسطين المحتلّة أو في لبنان، من تراخي وصاية النُظُم على القضية الفلسطينية، كانت كبيرة، ولكن ليس بما يكفي لحمايتها، أو حماية بيئتها الحاضنة، حين يزداد توحّش آلة الحرب الصهيونية، وتعود المعادلة لتضع المدنيين المعرَّضين للإبادة في غزّة في مقابل الجرحى أو القتلى الإسرائيليين بصواريخ المقاومة على الجبهتين. هذا الأمر لا يقع على كاهل المقاومة، لأنها تقوم بواجبها على أكمل وجه، ولكنه يثير أسئلة حول السُبل المُتاحة لتعزيز المواجهة، عبر تفعيل آليات الحماية الشعبية، حتى مع النُظُم التي لا تقف تماماً في صفّها، إن لم تكن في مواجهتها أساساً.
سُبُل حماية البيئة الحاضنة
المطروح حالياً في ضوء التغطية الأميركية والغربية الكاملة للممارسات الإبادية للصهاينة في غزّة، ليس مدّ الجبهة التي تقف في صفّ المقاومة، إلى ما هو أبعد من «المحور»، بل توسيع هامش المناورة أمامَها، في ظلّ الاختلال الكبير في ميزان القوى النظامي لمصلحة الغرب. وهذا عمل يقع في صُلب الإستراتيجية القتالية، إن لم نَقُل التكتيك أيضاً، لأنّ الاستفراد بالمدنيين الذين يمثّلون البيئة الحاضنة للمقاومة، وتجريفهم على النحو الإبادي الحالي، سيصعّب عليها لاحقاً عملية إعادة بناء القوّة حينما تنتهي الحرب ويعود الذراعان السياسي والمدني لها لأداء دورهما الطبيعي. هنا تبدأ، ليس فقط «المناورة»، بل أساساً «مركزية العلاقة» مع النُظُم العربية التي في إمكانها، عبر أدوار الوساطة أو تسهيل العمل الإغاثي، حفظ هذه البيئة جزئياً من «الاندثار». العلاقة هنا، بطبيعة الحال، لا تقوم على التحالف، كما هو الوضع مع حلفاء المقاومة، بل على تفعيل أدوار الوساطة، سواء عبر الاتصالات غير المباشرة أو عبر تسهيل العمل الإغاثي عبر المعابر وسواها. ليس ثمّة تنازل بهذا المعنى، بل على العكس، ثمّة استفادة من الوظائف التي في إمكان النظام العربي تأديتها، لتخفيف العبء، ليس فقط عن البيئة الحاضنة، بل أيضاً عن المقاومة أثناء اشتباكها مع الاحتلال. وهذا يكتسب قيمة مُضاعَفة في الظروف غير الاعتيادية، أي حين يصل الاختلال في موازين القوى إلى حدّ وقوف المنظومة العسكرية الغربية بمُجملها إلى جانب الاحتلال. الحاجة إلى حماية المدنيين في هذه الحالة تصبح أكبر بكثير من ذي قبل، ولا تعود مجرّد عمل إنساني أو إغاثي تقوم به أطراف محايدة، بل تصبح امتداداً للمعركة نفسها، ولكن على الجانب اللوجستي الخاصّ بالبيئة الحاضنة أو بالمدنيين الذين يتعرّضون للحصار المُطبِق والإبادة الكاملة. هذا لن يحدث على نطاق واسع إلا بالتنسيق مع النُظُم التي تدير المعابر، فهي وحدها التي تمتلك «الحقّ السيادي» بإقفال المعبر أو فتحِه، وفي ظروف المعركة الحالية فإنّ الوضع هو الأكثر تعقيداً منذ سنوات.

تعزيز الرقابة الشعبية على أدوار الوساطة
ثمّة معركة فعلية تُخاض حالياً على المسار الخاصّ بالمعابر، بما يجعلها «جبهة جديدة للحرب»، ولكن ليس بين المقاومة و«إسرائيل» هذه المرّة، بل بين الدولتين اللتين وقّعتا على أول اتفاقية سلام في المنطقة في كامب ديفيد. والحال أنّ المصلحة حالياً كبيرة في توسيع هذا الشرخ بين القاهرة وتل أبيب، لأنّ الوساطات التي كانت تقوم بها مصر في الجولات السابقة كانت دائماً مقيَّدة بالالتزامات الخاصّة باتفاقية «كامب ديفيد». وحين كانت تُفضي الوساطة إلى إنهاء هذه الجولة أو تلك، عبر إبرام الهُدَن، يبقى الأمر غالباً ضمن الهياكل الأمنية والسياسية التي تجري عبرها الاتصالات، ولا يصل إلّا بصعوبة فائقة إلى المستوى الشعبي. بمعنى أنّ الرقابة الشعبية كانت غائبة في هذه الحقبة عن ديناميات الوساطة التي كانت تتولّاها مصر بين المقاومة و«إسرائيل».
والحال أنّ طبيعة الاصطفاف الغربي الحالي وراء «إسرائيل» قد غيّرت في هذه المعادلة قليلاً، ولكن ليس إلى حدّ جعلِها في متناول الرقابة الجماهيرية تماماً. على أنّ التململ الشعبي الحاصل حالياً، بسبب هول الإبادة الحاصلة، هو في مصلحة، ليس فقط تحريك هذا الدور، إذ يصبح أقرب إلى الفلسطينيين منه إلى «إسرائيل»، بل أيضاً نقل الرقابة الشعبية إلى المستوى اللوجستي الذي كان دائماً حكراً على النُظُم المتعاقبة هناك. وهذا ما بدأ يَظهَر، عبر إدراك شرائح متزايدة من المصريين لأهمية الدور المُناط بمعبر رفح، أثناء تصاعد الصراع، ولا سيّما حين يصل إلى هذا الحدّ من الممارسة الإبادية، المصحوبة بحصار مُطبِق على القطاع. جَعْل هذه المسألة جزءاً من النقاش العام هناك لا يَضَع ضغطاً على النظام للتراجع عن المسافة المتساوية التي يأخذها من الصراع فقط، بل يحسِّن أيضاً في دور الوساطة نفسه، إذ تكون مُخرجاته متناسبة أكثر مع نتيجة المعركة، ولا سيّما إذا كانت لمصلحة المقاومة.
الانزياحات الحاصلة حالياً في الإقليم، على ضوء الاصطفاف الغربي غير المسبوق وراء «إسرائيل» ستكون، على المدى البعيد، أي بعد انتهاء الحرب، في مصلحة أكثرية شعبية عربية فعلية، ومنحازة للمقاومة


ما تفعله «إسرائيل» حالياً، لجهة، ليس فقط منع إدخال المساعدات على أنواعها إلى غزّة عبر معبر رفح، بل أيضاً استهدافه بالقصف من الجانب الفلسطيني في كلّ مرة تحصل فيها محاولة لاختراق هذا الحظر، يساعِد على بلوَرة هذه الوجهة أكثر، إذ تصبح السلطة المصرية محرَجة أمام شعبها، وليس فقط تجاه الفلسطينيين. حتى استفادة النظام هناك من ذلك لتعزيز شرعيته، ربطاً بمعارضته فكرة الترانسفير التي تلوِّح بها «إسرائيل»، تصبح هامشية، إذا ما قُورِنت بحجم الاستفادة التي ستحصل عليها المقاومة لدى «تغيير بنية الدور المصري»، ليغدو تحت رقابة فئات شعبية متزايدة ومنحازة تاريخياً للصراع ضد «إسرائيل».

خاتمة
الانزياحات الحاصلة حالياً في الإقليم، على ضوء الاصطفاف الغربي غير المسبوق وراء «إسرائيل» ستكون، على المدى البعيد، أي بعد انتهاء الحرب، في مصلحة أكثرية شعبية عربية فعلية، ومنحازة للمقاومة المسلحة ضدّ الصهاينة. وهذا سينعكس بدوره على مسارات التنمية في المنطقة، لجهة تركّز الثروة والرساميل في الدول التي كانت تقود مسارات إدماج «إسرائيل» في الخارطة الاقتصادية المُعدّة للإقليم. ديناميات الصراع الآخذة في التشكّل لن تعيد الاصطفافات إلى موقعها الطبيعي فقط، لجهة التراجع عن مآلات انهيار الإقليم في العشرية الأخيرة، بل ستضع كذلك، في حال تقزُّم موقع «إسرائيل» ودورها الوظيفي أكثر، أولويات مختلفة للمنطقة بمجملها، على الصعد كافّة، بما في ذلك الاقتصاد السياسي للتنمية نفسِه. التراجُع عن مسارات التطبيع وإدماج «إسرائيل» في نطاق التنمية الإقليمية العربية يُعَدُّ بمنزلة «تفصيل» في مثل هذا السياق، إذ إنّ المتغيّرات ستكون كثيرة، ولن تقتصر على «الدولة الصهيونية» وحدها، بل ستتعدّاها إلى مفهوم الهيمنة الرأسمالية ذاتِه، والذي تقع فكرة إنشاء «إسرائيل»، ككيان وظيفي، في صُلبه.

* كاتب سوري