كان حسام زملط، سفير السلطة الفلسطينية لدى بريطانيا، صريحاً في لقاءاته على الشاشات الغربيّة. تحدّث بوضوح عن كل ما فعله فريقه السياسي لحل القضية الفلسطينية: الالتزام بالقرارات الدولية، توقيع اتفاقات السلام والاعتراف بإسرائيل، ونبذ العنف. في المقابل، قوّضت إسرائيل كل الاتفاقات بسلوكها الاستيطاني والعدواني، وسط تجاهل وتفهم غربي لهذا السلوك. أراد السفير إحراج محاوريه الغربيين الذين كانوا مهووسين بانتزاع إدانة منه لعملية «القسّام» في السابع من أكتوبر، ولكنه في الوقت ذاته لخّص بصورة واضحة مآلات الخضوع للإرادة الغربية.مسار مدريد وأوسلو، كما هو مسار كامب ديفيد، أعطى وعوداً بالخروج من دائرة الحرب نحو السلام والتنمية الاقتصادية والازدهار، في إطار الانخراط في المنظومة الرأسمالية الغربية. كلمات حسام زملط تخبرنا أين انتهى هذا المسار، كما يخبرنا وضع مصر الاقتصادي عن مسار كامب ديفيد. بات واضحاً أن الغرب يمكنه أن يمنحك مكاسب صغيرة إذا تحالفت معه مثل الأمن الشخصي ومراكمة الثروة والتسلط على بعض قومك، ولكنه لن يمنحك «دولة مستقلة»، ولن يسمح لك بالسير في أي مسار له علاقة بالاستقلال، ولا بالتنمية (وهي أمر يختلف عن الرفاهية الناتجة عن ريع نفطي).

من هو الغرب؟
حين نتحدّث عن الغرب، يخطر في البال أميركا وحلفاؤها الأوروبيون في حلف «الناتو». يشير مفهوم الغرب إلى هوية عملاقة عابرة للاختلافات القومية والدينية الأوروبية. تصنيع هذا المفهوم، الذي نجد له جذوراً في كتابات ماكس فيبر مثلاً عن فرادة الحضارة في الغرب، تَكرّس في القرن العشرين بوصفه تعبيراً عن المركزية الأوروبية/الغربية، والتفوق الغربي الذي يُعزى لعوامل دينية وإثنية وثقافية، وتعبّر عنه قيم مثل الفردانية والعقلانية والديموقراطية والتبادل الحر. هو مفهوم متخيّل له تاريخ متخيّل يمحو التناقضات الأوروبية، ويحيل إلى جذور إغريقية/رومانية، لكن الأهم أنه يصنع نقيضه: الشرق المتخيّل، وهو النقيض الغارق في الجهل الذي يكمل تعريف الغرب لنفسه، ويؤكد فرادته وتفوقه، ويبرّر حروبه، سواء أكان هذا الشرق روسياً، أم صينياً، أم عربياً/إسلامياً.
الحديث عن «الغرب» هكذا بإطلاق، قد يبدو تسليماً بهذه الثنائية، ولأن الغرب ليس كتلة صماء، فالأفضل أن نكون محددين، لذلك يمكننا الحديث هنا عن «الغرب الاستعماري»، أي عن النخب الاستعمارية المهيمنة من سياسيين وأصحاب رؤوس أموال في الدول الغربية، ومؤسساتها وشركاتها وإعلامها. الغرب الاستعماري يتبنى ثنائية غرب/شرق، وأحد الأساسات الأيديولوجية لنهج الهيمنة ونهب ثروات الشعوب هو تقسيم البشر عنده إلى متحضرين وهمجيين. الغرب الاستعماري يزدريك فينهبك، وينهبك فيزدريك.
السعار الغربي بعد عملية 7 أكتوبر يشير إلى العنصرية المتجذرة في العقل الاستعماري الغربي، فليس من المقبول أن يتجرأ «أدنى البشر» على فعل التحدّي هذا، وعليه، لا بد من عقوبة رادعة تستعاد بها التراتبية في السلم البشري. الإبادة فعل مبرّر لإقامة الحضارة وديمومتها، والسكان الأصليون لا يستحقون الحياة ابتداءً، وإن عاشوا فعليهم أن يكونوا خاضعين. إسرائيل هنا تمثّل ذروة عنصرية الاستعمار الغربي، وطريقة تفكيره حيال «الآخر».
لا ينشر الغرب الاستعماري الديموقراطية ولا قيم الحداثة كما يتوهّم بعض الليبراليين العرب. الغرب الاستعماري - نظراً إلى عنصريته - لا يرى الشعوب الخاضعة لهيمنته مؤهلةً لتبني قيمه، وتزخر كتابات منظّريه بالحديث عن عدم ملاءمة قيم الحداثة والديموقراطية لأديان وثقافات بعينها. كذلك، يتحالف الغرب الاستعماري مع حركات دينية «متطرفة»، ولا يجد غضاضة في التحالف مع أنظمة غير ديموقراطية وقائمة على أسس دينية أو عشائرية، بل إن الغرب الاستعماري حين يخوض حروبه تحت شعار «نشر الديموقراطية»، يقوم بتحطيم مؤسسات الدولة الحديثة التي يمكن أن تحتضن أي عملية ديموقراطية، وهكذا تصبح الديموقراطية الوليدة، كما في العراق وليبيا بعد حروب الغرب الاستعماري، كوميديا سوداء، واحتراباً أهلياً يسخن ويفتر بين الطوائف والعشائر.
الغرب الاستعماري معنيٌّ على نحو أساسي بتعزيز هيمنته السياسية والاقتصادية، بالحصول على المواد الخام اللازمة له، وفتح أسواقٍ لمنتجاته، وتعزيز النزعات الاستهلاكية في المجتمعات الخاضعة. قد تأتي النزعات الاستهلاكية بتغييرات ثقافية في السلوك وأنماط الحياة، وهذا محبّذ غربياً، لكن الغرب الاستعماري لن يساعد في تطوير أي دولة خارج «الغرب» إلا بالقدر الذي يعزّز مصالحه وتفوّقه، بما يعني ألا تكون هذه الدولة نداً ولا نظيراً ولا شريكاً في مستوى الغرب المتفرّد نفسه، وهذا ما شهدناه في الوطن العربي في إطار التحالف و«الشراكة» مع الغرب طوال العقود الماضية، إذ لم ينجح هذا المسار في إنتاج تنمية مستدامة أو معالجة الهشاشة الاقتصادية القائمة على ريوع النفط والمواد الخام وريوع السياحة والعقار والتحويلات الخارجية.

لحظة فقدان السيطرة
تُفاخر الديموقراطيات الليبرالية الغربيّة عادةً بمساحة حرّية التعبير فيها. هذه المساحة تتّسع بالقدر الذي لا تؤثّر فيه في موازين القوى داخل الأنظمة الغربيّة، ولا تغيّر من هيمنة النخبة السياسية والمالية على مقاليد الأمور، فيما تتقلّص هذه المساحة في لحظات شعور النخبة الاستعمارية بالقلق على سيطرتها داخلياً أو خارجياً، ومن هنا نجد التعامل الشرس مع التظاهرات المناهضة للعدوان الإسرائيلي على غزة، وتأييد المقاومة، عبر التهديد بالسجن والترحيل.
قبل عشرين عاماً، كانت التظاهرات تملأ شوارع المدن الغربية رفضاً للحرب الأميركية/البريطانية على العراق، وكانت مساحة التعبير عن هذا الرفض واسعة، لأن الغرب الاستعماري وقتها كان منتشياً بفائض القوة عنده، لكنه في لحظة الحرب في أوكرانيا، كما في لحظة السابع من أكتوبر في غزة، يجد نفسه وقد بدا أضعف أمام أعدائه والمتربصين به، ومتوجساً من فقدان هيمنته على العالم، ما يفسّر شراسته ضد كل ما هو روسي، ثم ضد كل ما هو داعم لفلسطين، حتى وإن أدّى ذلك لانكشاف تناقضه مع شعاراته الليبرالية.
المواجهة مع الغرب الاستعماري لا تعني عدم مخاطبة مهمَّشي الغرب، والرأي العام الغربي إجمالاً، بفي خصوص قضايانا، بل إن هذا قد يكون مفيداً. المشكلة حين ينحو الخطاب منحى الالتزام بمعايير الغرب الاستعماري، ومحاولة إرضائه، وتفصيل نضالاتنا على مقاساته، كما في التوجس والابتعاد عن نقاش موضوع المقاومة المسلحة للاحتلال، فليست المسألة فقط توضيح معاناة الشعب الفلسطيني من الإجرام الإسرائيلي، وإنما فهم السياق التاريخي للقضية، وتالياً فهم «حق الدفاع عن النفس» العربي، في مواجهة الحديث الغربي الممجوج عن حق الدفاع عن النفس الصهيوني.

التناقض الرئيسي
الفزع الغربي من وضع إسرائيل، ودعمها في الانتقام لما حدث في السابع من أكتوبر بصورة إبادية يشرح أموراً كثيرة، من أهمّها اعتبار إسرائيل جزءاً من الغرب الاستعماري، ما يمسّها يمسّه. العودة إلى فهم إسرائيل كقاعدة للاستعمار الغربي في الوطن العربي، وإلى اعتبار فلسطين قضية مركزية للعرب، يعيد تصويب البوصلة، ويؤكد صوابية الخطاب المعادي للاستعمار عربياً، باعتبار أن قضية فلسطين هي -رمزياً ومادياً - قضية التحرّر العربي من التجزئة وما تجرّه من إعاقة للتنمية والديموقراطية في الوطن العربي.
حصاد محاولات كسب رضى الغرب الاستعماري هو ما نراه من تراجع عربي على كل المستويات. خيار مواجهة الغرب الاستعماري (بأشكال المواجهة المختلفة السياسية والاقتصادية وغيرها في إطار سعي للنهوض) ليس ترفاً، بل ضرورة لإزالة عوائق النهوض العربي، وبهذا المعنى ليست قضية فلسطين قضيةً نتعاطف معها كعرب، بل هي قضيتنا التي ندافع عنها لنتحرّر وننهض ونمتلك ثرواتنا وننمي أوطاننا من دون أن يتسلّط علينا من يرانا «حيوانات بشرية».
بعد الاستغراق في صراعات بينيّة وحروب أهلية (بمساهمة أساسية من الغرب الاستعماري)، وخلق أعداء وهميين (خدمةً لمصالح غربيّة استعمارية)، تبدو الفرصة ملائمة لاستعادة «التناقض الرئيسي» في الوطن العربي مع الغرب الاستعماري، وإدارة التناقضات الثانوية بطريقة ملائمة.

الحضارة ضد الهمجية
كرّر نتنياهو وآخرون في الغرب الاستعماري الحديث عن معركة الحضارة ضد الهمجية. المعركة تقوم كما هو واضح على ممارسة المتحضّرين لأكبر قدر ممكن من الهمجية في سبيل معالجة وضع الهمجيين، وتحويلهم إلى متحضرين. يتحول الهمجي إلى متحضر حين يكف عن مجرد التفكير في التمرد على الحالة الاستعمارية، ويقبل بالأكل والشرب والاستهلاك على النمط الغربي، محتفياً بذلك باعتباره تجسيداً لـ«ثقافة الحياة»، من دون أن يخجل من سلب كرامته وإرادته واستقلال قراره، أو يمتعض من وضعه في مرتبة متدنية ضمن تصنيف الغرب الاستعماري للبشر.
يريد الغرب الاستعماري «الآخرين» إمّا أتباعاً، أو أشلاءً. بأحد الأمرين يمكن تحصيل رضى الغرب الاستعماري.

* كاتب عربي