حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، كان «مكتب مقاطعة إسرائيل»، التابع لـ«جامعة الدول العربية»، يثير «الرعب» في الأوساط الاقتصادية الإسرائيلية. فالمكتب كان مسؤولاً عن تنفيذ إجراءات مقاطعةٍ عربية صارمة في حقّ كلّ مَن يتعامل اقتصاديّاً مع الكيان الصهيوني، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما تسبّب، على مدى عقود، في إلحاق خسائر كبيرة بالاقتصاد الإسرائيلي، تتباين التقديرات حول حجمها وقيمتها، علماً أنها تتجاوز، وفقاً للأرقام الإسرائيلية الرسمية المتداولة، الـ90 مليار دولار، منذ عام 1952، تاريخ إنشاء الجامعة للمكتب المسؤول عن المقاطعة. لكن مع توقيع «منظمة التحرير الفلسطينية» والأردن، على اتفاقيتَي سلام مع العدو، عامَي 1993و1994، وما تبعهما من تخفّف عربي تدريجي من حالة «التزمّت» في تطبيق إجراءات المقاطعة، أخذ المكتب، وتحديداً في العقد الأخير، يتحوّل تدريجيّاً إلى الشكل المعتاد للمؤسّسات السياسية والاقتصادية العربية، التي يجتمع فيها ممثّلو الدول العربية، ويتّفقون على مشروعات وبيانات وإعلانات نوايا، إلّا أنها تبقى بلا تنفيذ، أو رهناً بموقف حكومة كل دولة.
مقاطعة مع وقف التنفيذ
أمام هَول عملية الإبادة الجماعية التي تنفّذها إسرائيل، اليوم، في حقّ أبناء الشعب الفلسطيني، وما تحظى به من دعم غربي لمجازرها، فإن جملة تساؤلات باتت تُطرح عن واقع المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل، ومستقبلها، وما إذا كان مكتب المقاطعة لا يزال قائماً ويعمل. في واقع الحال، فإن ما قطعه التطبيع الاقتصادي العربي مع الكيان الصهيوني من أشواط، بات يتجاوز بكثير آليات عمل مكتب المقاطعة ومهمّاته.

كان «مكتب مقاطعة إسرائيل»، التابع للجامعة العربية يثير «الرعب» في الأوساط الاقتصادية الإسرائيلية (من الويب)

فالمكتب الذي كان يَستهدف في عمله المؤسّسات والشركات والأفراد المتعاملين مع إسرائيل، يواجه حالياً شكلاً متقدّماً من التطبيع الاقتصادي مع العدو، إذ إن بعض الدول العربية باتت تقيم علاقات اقتصادية مباشرة وواسعة مع هذا الكيان، تحت عنوان اتفاقيات السلام التي وقّعتها، وأخرى لا تمانع التعاون مع شركات إسرائيلية، أو استقبال منتجاتها ورجال أعمالها، وإنْ لم تكن قد طبّعت مع تل أبيب بعد. وقلّة قليلة من الدول العربية لا تزال، من جهتها، ملتزمة بنسب متفاوتة في تنفيذ توصيات مكتب المقاطعة، وترفض إقامة علاقات اقتصادية مباشرة أو غير مباشرة مع تل أبيب. ومع ذلك، يقول مصدر خاص في «المكتب الإقليمي لمقاطعة إسرائيل» في دمشق، إن «غالبية الدول العربية تشارك في مؤتمر ضبّاط الاتصال للمكاتب الإقليمية لمقاطعة إسرائيل، الذي يُعقد بتنظيم من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية (قطاع فلسطين والأراضي العربية المحتلّة)... ولكن مدى التزام الدول المشاركة بما يُتوصّل إليه، أمر عائد إلى كل دولة». ويوضح، في حديث إلى «الأخبار»، أنه عادةً ما «يتضمّن مؤتمر مقاطعة إسرائيل في جدول أعماله عدداً من القضايا لاتّخاذ التوصيات اللازمة في شأنها، وفقاً لما تقتضيه مبادئ المقاطعة العربية المقرّرة وأحكامها: تطبيق الحظر وإدراج شركات في لائحة المقاطعة، وإنذار شركات أخرى ورفع ثالثة من لائحة الحظر لاستجابتها لأحكام المقاطعة. وبالتالي، فإن الدول المتفاعلة مع توصيات مؤتمر مقاطعة إسرائيل تعمد إلى منْع دخول أيّ مستوردات من شركات خاضعة لأحكام المقاطعة».

حقيقتان
بناءً على ما تقدَّم، يمكن استنتاج حقيقتَين في ما يتعلّق بواقع المقاطعة العربية الرسمية لإسرائيل تحت مظلّة «جامعة الدول العربية»: الأولى أن المكتب الرئيسي المعني بإصدار التوصيات اللازمة بإجراءات المقاطعة، لا يزال يحافظ على آلية عمله المعتادة، وذلك رغم ما طرأ من متغيّرات على طريق التطبيع الاقتصادي المباشر والعلني مع الكيان الإسرائيلي. ووفقاً للمصدر، فإن «التركيز عبر مؤتمر ضبّاط الاتصال هو على استمرار تفعيل مكاتب المقاطعة الإقليمية في الدول العربية، وتعزيز التنسيق والتبادل في ما بينها، وهذا يستدعي ضرورة تعزيز التواصل والمتابعة مع المكتب الرئيسي للمقاطعة في القاهرة، سواء في ما يتعلّق بتنفيذ القرارات والتوصيات، أو في إطار جهود ضبّاط الاتصال لمواكبة المستجدّات ذات الصلة بأحكام المقاطعة العربية»، علماً أن الأمانة العامة لـ«جامعة الدول العربية»، دعت، في أكثر من مناسبة، في السنوات السابقة، الحكومات العربية، إلى تفعيل العمل بأحكام المقاطعة، ولا سيما مع استمرار الاعتداءات الصهيونية على الأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية. كما شهدت بعض المُدّات حملات مقاطعة دولية، رداً على الجرائم الصهيونية، أبرزها تلك التي تمّت مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي، وتسبّبت في خسائر كبيرة، كانخفاض الاستثمار الأجنبي المباشر، وتراجع الصادرات الصهيونية، وإلغاء عدد من الصفقات الاستثمارية، وغيرها.
غالبية الدول العربية تشارك في مؤتمر ضبّاط الاتصال للمكاتب الإقليمية لمقاطعة إسرائيل


أمّا الحقيقة الثانية، فتتمثّل في تنفيذ توصيات ما يَتفّق عليه ضبّاط الاتصال في مؤتمراتهم، والتي تبقى في عهدة السلطات المعنية في الدول العربية تبعاً لمواقفها السياسية من التعامل مع إسرائيل من جهة، وماهية علاقاتها الاقتصادية مع الدول الأجنبية من جهة ثانية. ويمكن تقييم مدى التزام الدول العربية، بمبادئ المقاطعة وحجم الخرق الحاصل فيها، عبر استعراض الحالات المعتمدة في إدراج الشركات والمؤسّسات ضمن لوائح مكتب المقاطعة، والتي يحدّدها مكتب دمشق بالبنود التالية: «إقامة الشركات والمؤسّسات الأجنبية مصنعاً فرعياً أو رئيساً لها في إسرائيل، أو مصنعاً للتجميع. ويشمل الحظر الشركات والمؤسّسات الأجنبية التي يقوم وكلاؤها بتجميع منتجاتها في إسرائيل، أو إذا كان لها وكلاء عامون أو مكاتب رئيسية للشرق الأوسط في إسرائيل، أو منحت امتياز حقّ استعمال اسمها إلى شركات إسرائيلية، أو أسهمت في شركات أو مصانع إسرائيلية، أو قدّمت المشورة أو الخبرة الفنية إلى المصانع الإسرائيلية، أو امتنعت عن الإجابة في مدة الإنذار على ما يُطلب منها من أسئلة تستهدف إيضاح وضعها وتحديد علاقتها مع إسرائيل، أو قامت ببناء أو بيع بواخر أو ناقلات إلى إسرائيل، أو شركات إسرائيلية أجنبية مشتركة، على أن يكون قد تم إنذارها، أو إذا كانت مملوكة كليّاً أو بنسبة 50% وأكثر إلى أشخاص من ذوي الميول الصهيونية، أو إذا ثبت قيامها ببيع منتجات أو مواد أولية من منشأ عربي إلى إسرائيل، أو إذا كانت وكيلة شركات أخرى حرّة التعامل معها، وهذه الأخيرة ينحصر نشاطها بعمليات الاستيراد والتصدير والاتجار في مختلف أنواع السلع التي تنتجها شركات أخرى محظور أو غير محظور التعامل معها، أو إذا باعت لإسرائيل مصنعاً يسهم في دعم اقتصادها أو مجهودها الحربي».