لم يكن تمسّك جزء كبير من النخبة السياسية الأميركية بحل الدولتين نابعاً من اعتقادٍ بعدالة القضية الفلسطينية، بل اقتناعاً بضرورة حلّها (بشكل غير منصف، ومع أكبر قدر من التنازل عن الحقوق التاريخية) لتثبيت إسرائيل في المنطقة العربية وضمان مستقبلها. لم تكتمل عملية التطهير العرقي للسكان الأصليين في أرض فلسطين بمحوهم تماماً، وكان لمقاومتهم الإبادةَ الاستعمارية الاستيطانية أثرها في توليد وجهتَي نظر صهيونيّتين داخل المعسكر الاستعماري: تقول واحدةٌ بضرورة استكمال التطهير العرقي بعمل «نكبة جديدة»، إذ إن ترك هؤلاء يعيشون ويقاومون هو خطر ماحق على مشروع الاستيطان الصهيوني، ولا يمكن لدولة «يهودية» خالصة أن تستقر دون محوهم، ولو بالتدريج والقضم البطيء لأرضهم. فيما وجهة النظر الأخرى ترى الخطر على مشروع الاستيطان الاستعماري الصهيوني في المكابرة وعدم قراءة الواقع، وتجد في إنهاء قضية السكان الأصليين عبر منحهم «ربع دولة»، وشرعنة وجود إسرائيل في محيط عربي متربص بها، حلاً واقعياً لتأمين مستقبل الكيان الصهيوني، واستمراره في القيام بوظيفته الاستعمارية.تبنّت الإدارات الأميركية الديموقراطية حلّ الدولتين، لكنها اصطدمت بانزياح إسرائيلي على مرّ العقود الثلاثة الماضية نحو أقصى اليمين، وتبنّي وجهة نظر أكثر راديكالية في التعامل مع الفلسطينيين. حصل اختلاف بين هذه الإدارات واليمين الإسرائيلي الحاكم، لكن الاستيطان وتقويض حلّ الدولتين تواصل. ظهرت وجهة نظر ثالثة مع ترامب وكوشنير، تقول إن الوقت حان لتجاوز القضية الفلسطينية تماماً، طالما أن الأنظمة العربية سلّمت بأنها قضية الفلسطينيين وحدهم.
بدأ مسار تثبيت وجود إسرائيل في المنطقة عبر الدعوة إلى إيجاد شراكات عربية سياسية واقتصادية وأمنية معها، وهكذا بدأ مسار الاتفاقات الإبراهيمية، على اعتبار أن حل الدولتين لم يعد ضرورياً، وأن الشراكة مع العرب الرسميين كافية لإنهاء الخطر على إسرائيل. اندفعت إدارة بايدن لاستكمال هذا المسار، بمحاولة توسيع دائرة الشراكات العربية لإسرائيل، رغم التحفظ على بعض سلوكيات الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ الكيان الصهيوني، والانزعاج مما تسببت به من انقسامات داخل الكيان الصهيوني، لكن طوفان السابع من أكتوبر أيقظ الأميركيين والعالم على حقيقة عدم إمكانية تجاوز القضية الفلسطينية.
كان التفكير الأميركي هو في ضمان مستقبل إسرائيل بوصفها رأس حربة الاستعمار الغربي في المنطقة العربية، لكن الأميركيين فزعوا مما حصل في السابع من أكتوبر، ووجدنا زيارات غير مسبوقة من وزيرَي الدفاع والخارجية، ثم الرئيس الأميركي، وعمليات دعم ومساندة عبر الخبراء والقوات الخاصة. كانت هذه إشارة واضحة لتحوّل إسرائيل تدريجياً في السنوات الأخيرة من رصيد استراتيجي إلى عبء كبير، إذ تهرع الولايات المتحدة لإنقاذ استثمارها المترنّح، واستعادة هيبتها المتضررة بفعل الضربة الموجعة لقاعدتها الاستعمارية في المنطقة، لكنها تقف حائرة إزاء اختيار الطريقة المثلى للرد واستعادة الهيبة.
وضعت إدارة بايدن، منذ مجيئها إلى الحكم، نصب عينيها احتواء الصعود الصيني، وأرادت استكمال فكرة بدأت منذ إدارة أوباما، وهي الانسحاب «الجزئي» من المنطقة العربية. عملت الإدارة على إيجاد تفاهمات بين حلفائها لترتيب المشهد الإقليمي المستقبلي مع تفرّغها لمقارعة التحدي الصيني، وجاءت بسياسة تثبيت الواقع القائم في المنطقة، وتجنب الصراعات الكبيرة. جاء التحدي الروسي في أوكرانيا ليدفع الأميركيين لحشد حلفائها الغربيين معها في حربٍ أريد منها كسر الروس. في ظل هذه الاستراتيجية الأميركية، تبرز إشكاليات عديدة في خيار الاندفاع نحو رد إسرائيلي ضخم غرضه استرداد الهيبة وعكس مسار الهزيمة في السابع من أكتوبر.
في الحسابات الأميركية، يبدو الاندفاع هنا قطيعة مع الاستراتيجية المبنية على عدم الغرق في وحول المنطقة، وخاصة بعد تجربة العراق. يخشى الأميركيون التورط مجدداً في المنطقة، وأيّ خسائر مادية وبشرية في حرب إقليمية واسعة ستكلّف الرئيس بايدن انتخابياً في سنة الانتخابات هذه، لكن الأهم أنها ستضعف أكثر الموقف الأميركي في العالم، وتحديداً في ما يخصّ المواجهة مع الصين. في هذه الحالة، تبدو تحركات الأساطيل الأميركية - المراد منها إيصال رسائل ردع - ذات فعالية ضئيلة، فالأطراف المطلوب ردعها تعرف أن الولايات المتحدة لا تريد حرباً، ولن تتدخل على الأرض نصرةً لإسرائيل (وقد أعلن بايدن ذلك بوضوح)، أي أنها ستساعد بكل قوة الجيش الإسرائيلي ليخوض حربه وحربها.
لكن الحسابات الأميركية تشمل أيضاً وضع إسرائيل، فالأميركيون لا يريدون توسّع الحرب إقليمياً لأنهم يخشون ضرراً كبيراً على إسرائيل، وهم يخشون عليها أيضاً من ورطة حقيقية في غزة إذا حصل اجتياح بري واسع. حين ذهبت سكرة الغضب في الأيام الأولى، جاءت فكرة: ما هي الخطة؟ فالقيام برد فعل انتقامي إبادي كما يحصل عبر القصف الجوي ممكن، لكن العمل البري يستلزم إدراكاً لخطة العمل في اليوم التالي للسيطرة على غزة (والافتراضات الأميركية قائمة على أن هذا ممكن)، وكيفية التعامل مع إدارة القطاع.
هذه الحسابات لا تعطّل الرغبة الأميركية/ الإسرائيلية في توجيه ضربة قاصمة لحكم حركة «حماس» في غزة. الموازنة بين هذا الهدف الإسرائيلي (الذي يمكن أن يعمل الأميركيون على خفض سقفه) وعدم الانزلاق إلى حرب واسعة في المنطقة، هي مسألة في غاية الصعوبة. الأميركيون حائرون بين الرغبة في الانتقام وتأديب المتجرّئين عليهم، وحساباتهم الاستراتيجية ومصالحهم، فإمّا القبول بهزيمةٍ إسرائيلية تاريخية في السابع من أكتوبر، لها تداعياتها، مع محاولة تلطيفها بعمل عسكري ما، وإمّا الذهاب نحو حربٍ كبيرة رفضاً للتسليم بالهزيمة، دون ضمانات بعدم توسعها أو توسع الهزيمة فيها. السيناريو المثالي للأميركيين هو القضاء على «حماس» والعودة إلى تفعيل مفاوضات سلام ومشاهد تطبيع، لكنْ دون ذلك عقبات كبيرة وأثمان ضخمة.
يتفرّج الصينيون والروس على مشهد الحيرة الأميركي بارتياح، فيما أعداء الولايات المتحدة في المنطقة يتأهّبون لمنعها من محاولة محو آثار السابع من أكتوبر. قد لا يرغب العقلاء من الليبراليين الصهاينة في الولايات المتحدة في «مغامرة غير محسوبة»، لكنّ المشي على حبل دقيق وسط براكين تغلي هو أمر يصعب التنبّؤ بمآلاته.

* كاتب عربي