المسارات التي قادت إليها المواجهة القائمة بين المقاومة و«إسرائيل»، كانت ستفضي، حُكماً، مع كلّ التمحور الحاصل حولها على صعيد العالم، إلى حصول تحوُّلٍ، ليس في سياسات الدول نفسِها، بل في المقاربة المُعتَمدة للمسألة الفلسطينية. فهذه الأخيرة تُرِكت لسنوات، على أثر انهيار الإقليم، بين يدي الحكومات اليمينية في الغرب وإسرائيل، على أمل تقزيمها، والانتهاء منها، أو حلِّها، خارج الإطار التاريخي للصراع، بما في ذلك الحلول الجزئية الاستسلامية، التي أفضى إليها اتفاق أوسلو. وهذا مسارٌ لا يقتصر على الغرب فحسب، بل يشمل الإقليم هنا أيضاً، على اعتبار أنّ اتفاقات أبراهام، التي جُرَّت إليها «دول وازنة» في المنطقة، لإدماج «إسرائيل» في مسارات التنمية هنا، هي نتاج المقاربة اليمينية المتطرّفة نفسِها، ولكن في سياق إقليمي، حصل فيه انتقالٌ للقيادة المرتبطة بمسار الصراع مع «إسرائيل»، من ضفّة إلى أخرى.
مؤشّر التحوّل في قرار الجمعية العامّة
الانعطافة حالياً تستثني الدول والحكومات في الغرب، لأنّ موقفها لا يزال شبه موحَّد خلف «إسرائيل». ما يتغيّر حالياً، وإن ببطءٍ شديد، تحت وطأة هول الإبادة الحاصلة، هو المزاج الشعبي الذي بدأ يشهد تحوُّلاً لمصلحة الفلسطينيين، بدليل التصويت الذي حصل في الجمعية العامّة للأمم المتحدة، على القرار العربي الخاصّ، بوقف إطلاق النار الفوري.
هنا لا تكون المواقف الجيوسياسية حاضرة بالقدر نفسِه كما في مجلس الأمن، حيث الأوزان الخاصّة بالأعضاء الدائمين الخمسة تعطّل، ليس فقط إمكانية اتخاذ قرار لمصلحة هذا الشعب أو ذاك أو هذه القضية أو تلك، بل عملَ المجلس برمّته، في حال كانت المواجهة الجيوسياسية على أشدّها. بهذا المعنى، تصبح الفرصة مُتاحة أكثر في الجمعية العامّة، نظراً إلى انعدام وجود تعطيل مُتبادَل، وعلى ضوء مروحة التمثيل الواسعة التي تنطوي عليها للتعبير عن الإرادة الشعبية للأكثرية العالمية، سواء على مستوى الدول أو الشعوب. وهو ما ظهر بوضوح من خلال التصويت على مشروع القرار الخاصّ بالتهدئة ووقف إطلاق النار الفوري في غزّة. يمكن القول في هذا السياق إنّ التعطيل الذي حصل في مجلس الأمن، بعد تبادل الولايات المتحدة وروسيا رفض مشاريع القرارات الخاصة بكلٍّ منهما، فضلاً عن مشروع القرار البرازيلي، قد جرى تجاوُزُه هنا، وإن بدا أنّ القرار الروسي، في فلسفته وصياغته، هو الأقرب إلى روحيّة القرار العربي الذي تبنّته الجمعية العامّة بأغلبية كبيرة.
ثمّة، في المحصّلة، وبمعزل عن تفاصيل القرار الذي اعتُمدت في صياغَتِه تسويات وتنازلات لكسب مزيدٍ من الأصوات المتردِّدة أو الخائفة من العقوبات الأميركية، أكثريةٌ دولية كانت حاضرة لكبح آلة الحرب الصهيونية. هذا كان ليمثّل انتصاراً فعلياً للإرادة الشعبية، على مستوى العالم، لو لم تكن قرارات الجمعية العامّة مقتصرةً على البعد الرمزي أو المعنوي. أي لو كانت، مثل قرارات مجلس الأمن، مُلزِمة للدول الأعضاء وتتمتّع مثله بالسلطة اللازمة لإجبار الدول على الامتثال لها.

طبيعة التصويت على القرار
فلنقل إنّ هذه الأكثرية داخل الجمعيّة هي في الحقيقة أكثريّتان. فالأصوات التي نالها القرار كانت تعبّر بدورها عن أكثرية شعبية غير مرئية، أعلنت تأييدها، ليس بالضرورة للمقاومة الفلسطينية في دفاعها عن شعبها، بل لإيقاف الحرب التي تشنّها الدولة الصهيونية على الفلسطينيين في غزّة. والحال أنها في سياق تشكّلها كأكثرية تصويتية داخل الجمعية العامّة، قد ووجهت بأقلّيتين، إحداهما هشّة ومتردّدة، امتنعت عن التصويت «تفادياً للإحراج»، والثانية «صلبة ومتماسكة» رفضت القرار وصوّتت ضدّه، عملاً بما يمليه عليها طابعها الهجومي، المتمحور حول قيادة الحرب.
توزيع الأصوات مهمٌّ هنا، ليس فحسب كمؤشّر كمّي على التصويت العددي، بل أيضاً كدلالة على الاتجاهات العامّة التي ستتوزَّع وفقاً لها مواقف الدول وانحيازاتها السياسية مع كلِّ تطوّرٍ يطرأ على مسار الحرب. بدا لافتاً في هذا السياق تبرُّم الدولة الصهيونية من الدول الحليفة التي لم تنضبط تماماً في إطار الكتلة الصلبة الداعمة للحرب وفضّلت الامتناع عن التصويت مثل ألمانيا، إذ تلقّت حكومتها توبيخاً من سفير الاحتلال لديها على هذا الموقف الذي اعتُبر تراجُعاً عن الموقف الألماني التاريخي المساند لإسرائيل على امتداد محطّات الصراع.
المواقف الأوروبية الأخرى، تفاوتَت بين تأييدٍ وامتناعٍ عن التصويت، لكنّ الكتلة الأكبر والأكثر تمثيلاً داخل الاتحاد الأوروبي فضّلت الامتناع عن التصويت، على اعتبار أنّ رفض مشروع القرار الداعي لإيقاف الحرب كان سيحرِجها أمام الأقليات العربية والمسلمة داخلَها. مَنع الحكومات هناك للتظاهرات الشعبية الداعمة لفلسطين لا يمكن اعتبارُه، بهذا المعنى، مؤشّراً فعلياً إلى الوجهة المستقبلية للسياسات المتّبعة تجاه الصراع. ليس لأنّ تأييدها للحرب وانحيازها إلى إسرائيل سيصبحان أقلّ، بل لأنّ الضغط الشعبي الكبير، مع ارتفاع تكلفة السياسة الإبادية الحاصلة، سيُجبرانها على التراجع تماماً عن إجراءات الحظر، فأقلّه على جعل مناقشتها مُتاحة في أطُرٍ أخرى بعيداً عن الحكومات، أي في البرلمانات والقضاء، خوفاً من حصول انفجارٍ لديها، وبالتالي إفساحاً في المجال أمام هامش أكبر للتعبير عن الموقف. أي كما حصل في فرنسا بعد إلغاء المحكمة العليا هناك قرارَ الحكومة بحظر التظاهرات الداعمة للفلسطينيين، ما جعَلَ التعبير عن التضامن ممكناً حتى في ظلّ المناخ العام الذي تشيعه الحكومة هناك تأييداً لإسرائيل في حربها على غزّة.

غزّة ليست أوكرانيا
هذا لا يجعَل الموقف الغربي موحَّداً ومتماسكاً بالشكل الذي بدا عليه حين تقاطَرَ رؤساء الدول والحكومات الأوروبية إلى «إسرائيل» لإبداء التضامن معها ودعمِها في حربها ضدّ الفلسطينيين. «الإجماع الصلب» الذي بُني حول الموقف من التدخّل الروسي في أوكرانيا لا يمكن اعتماده بالطريقة ذاتها مع مسألة شائكة ومعقّدة ومتداخلة كالقضية الفلسطينية. ثمّة تاريخٌ للصراع هنا يستحيل إنكارُه بالطريقة التي حصلت في أوكرانيا. وهو ما يعقِّد، ليس فقط أَخْذ المواقف الرسمية في الهيئات الدولية، بل أيضاً طريقة بناء التحالفات ضمن السياق الجيوسياسي الواحد. وهذا ما يفسّر، أيضاً، بأثَر رجعي، السرعةَ الفائقة التي بُني فيها التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة هناك، بالمقارنة مع حجم التعقيد الذي لاقاه الحليفان اللذان يقودان الحرب هنا، في مسعاهما لبناء تحالف جديد للحروب الإمبريالية، سواء في الجمعية العامّة للأمم المتحدة أو في مجلس الأمن قبلها، وإن يكن حضور روسيا في المجلس هو القاسم المشترك بين الأمرين. ما حصل في مجلس الأمن بهذا المعنى كان متوقّعاً، نظراً إلى استعداد روسيا، ومعها الصين، لمنع الولايات المتحدة من نقل قيادة الحرب إليها عبر المحافل الدولية كما حاولت أن تفعل قبل ذلك في العراق.
في المقابل، بدا الرفض الكبير في الجمعية العامّة، لاستمرار الحرب، بمثابة صفعة سياسيّة، تُضاف إلى نظيرتِها العسكرية التي تلقّتها إسرائيل في الميدان عقب هجوم المقاومة الفلسطينية المفاجئ في السابع من أكتوبر. التصوّر هنا بإمكانية نقل المنظور الأورومركزي للصراع، ولكن بقيادة أميركية وإسرائيلية، إلى هيئة دولية تحظى بتمثيل كبير للدول المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، جَعَلَ إمكانية توسيع فكرة التحالف الغربي الذي نَشَأ في أوكرانيا، ليشمل غزة، ليس فقط مستحيلاً، بل مُربِكاً، أيضاً، لوحدة الغرب الجيوسياسية نفسِها.

خاتمة
حالياً، ليست ثمّة تصدُّعات، بالمعنى الفعلي، في الموقف الغربي من الحرب الصهيونية على غزّة، ولكنّ الضغوطات التي تتعرّض لها الحكومات المؤيّدة للحرب، بمعظمها، لا تتزايد فحسب، بل تنتقل من ساحة إلى أخرى، بحيث تغدو إمكانية التعاطف والاستقطاب أكبر، حتى من خارج إطار الجاليات العربية والمسلِمة هناك. وهو ما بدأ يتزايد، على نحوٍ ملحوظ في الدول الأوروبية التي لا تقع في صُلب التحالف الغربي، مثل إسبانيا واليونان. حيث تشهد هذه البلدان تظاهرات يومية، يغلِب عليها الحضور اليساري لأحزابٍ معارِضة أو ممثّلة في البرلمانات والحكومات هناك. على أنّ تزايُد وتيرة هذه الاحتجاجات، بحيث تصل إلى مستوى نظيرتِها التي عارضت غزو العراق في عام 2003، لا يبدو مرجَّحاً، نظراً إلى اختلاف السياق الجيوسياسي برمّته على أثر الحرب في أوكرانيا.
في سياقٍ كهذا، تتحوَّل الخروقات الحاصلة هنا وهنالك، ولا سيّما في الدول التي لا تزال تحظُر التظاهرات تماماً وتساوي بين معارَضة الحرب والعداء للسامية، إلى «أعمالٍ بطوليّة» بكلّ معنى الكلمة. فالتظاهر هناك حالياً، تأييداً لفلسطين، هو بمثابة مخاطرة بكلِّ شيء، وهو ما يجعل السياق الغربي الذي يحصل فيه الاحتجاج امتداداً رمزياً للجبهة المفتوحة على مصراعيها هنا، إن لم نقل إنه «وجهها الآخر».
* كاتب سوري