بالإجمال، أضحى الخطاب الإعلامي غير الإمبريالي الصريح، واضحاً على المستوى العالمي، خاصة باندغامه مع حركة الشعوب المتضامنة. خطاب يعكس الصراع بين روايتين، رواية المستعمِر الصهيوني الاستيطاني الترحيلي، ورواية الشعب الفلسطيني التحررية. وهذا الصراع بين الروايتين، هو نتاج طبيعي لحقيقة الصراع الوجودي، وهو ليس نتاج 7 أكتوبر الحالي وما بعده حتى اللحظة، وهذا ما تكتشفه تباعاً أوساط عالمية تتّسع يومياً، بل هو نتاج عام 48 وما قبله، عام التهجير والنكبة، وتأسيس الكيان الصهيوني عبر التطهير العرقي والمجازر واستعمار الأرض. ومع ذلك، إلى جانب الخطاب أعلاه، هناك خطاب الأنظمة العربية الرسمية، وبعض قياديّي فريق أوسلو، وبعض الدول الأوروبية، المعادية للمقاومة، سراً أو علانية لا فرق، خطاب يسعى أن يكون «متوازناً وموضوعياً» فيدين «الجانبين»، ويتعاطف مع المدنيين من الجانبين، ويطالب بوقف قصف المدنيين من الجانبين.
ففي العديد من البيانات والتصريحات والمواقف يتردّد مصطلحان: الأول، مصطلح «الجانبين»، فيظهر صاحب التصريح وكأنه يقف على مسافة واحدة من الجانبين، فيقنع نفسه بموضوعيته التي لا تتلوّث بالوقوف مع أيّ من الجانبين، أو تتلوّث - لا سمح الله - بتأييد المقاومة. صاحب هذا المصطلح ليس غبيّاً بل يعرف أن «الجانبين» أحدهما الجلّاد الصهيوني، والثاني الضحية الفلسطيني. أحدهما المشروع الصهيوني الاستعماري، والثاني الشعب الفلسطيني ومشروعه التحرري. وبالتالي، فالحديث عن «جانبين» على المستوى ذاته من المسؤولية في الصراع لا يعدو كونه، في أفضل الأحوال، تشويهاً للوعي، حتى لو ادّعى البراءة، وفي أسوئها، الوقوف مع الجلاد، إذ أمام التطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، الوقوف على الحياد هو وقوف مع المجرمين ومشاركتهم في جريمتهم، ودون التطلع مطلقاً إلى النوايا الحسنة، فالدم المسفوك في القطاع لا يحتمل تلك النوايا، هذا إن وُجدت أصلاً.
أمّا المصطلح الثاني، فهو «المدنيون». هنا أيضاً، وعلى المستوى ذاته، يوضع المستعمِر الصهيوني الذي احتل الأرض، وشرّد الشعب الفلسطيني، ويرتكب المجازر والإبادة بحقّه، وبنى مستعمراته على أرض مسلوبة، على المستوى ذاته مع الفلسطيني اللاجئ والمُطارَد والمُستهدَف بالإبادة والتطهير والجرائم.
اليوم، بفعل التجنيد الإجباري، ليس هناك من مدني في دولة الكيان، سوى الأطفال والعجائز


ومع ذلك، يعرف المنافقون أصحاب مقولة «المدنيين» في وصف المستعمِرين أنهم ليسوا بمدنيين نهائياً. دولة المشروع الصهيوني نشأت، أصلاً، كدولة معسكرة من رأسها حتى أخمص قدميها، أسّستها عصابات مسلّحة تشكّلت وترعرعت في مستعمرات مسلّحة ما قبل عام 48 وما بعده. فـ«الاستيطان اليهودي»، كما دُعي في التاريخ، هو في الحقيقة استيطان مسلّح، في تركيبته وتربية أعضائه وتسليحهم ودوره الريادي في نجاح المشروع الصهيوني. وضمن تركيبته بالذات، تشكّلت العصابات الصهيونية المسلّحة مثل «الهاغاناه» و«ليحي» و«الأراغون» و«ايتسيل»، وهي التي أضحت جيشاً وأسّست دولة المشروع الصهيوني. إنها دولة معسكرة تماماً بمؤسساتها ومستعمريها. واليوم، بفعل التجنيد الإجباري، ليس هناك من مدني في دولة الكيان، سوى الأطفال والعجائز، وغير ذلك هم جنود احتياط. أمّا صورة المستعمِرين المسلّحين، وكذا صورة الفاشي بن غفير يوزّع السلاح على «المدنيين»، فبالتأكيد لا تغيب عن أعين أصحاب مقولة «المدنيين»، هؤلاء الذين يعربدون في الضفة ضد المدنيين الفلسطينيين في الحقول وعند مفترقات الطرق، يمارسون التطهير العرقي الذي طاول حتى اللحظة 20 تجمعاً زراعياً وبدوياً، ولكنه النهج ذاته: المساواة بين الجلّاد والضحية، والتعمية على طبيعة الصراع.
وحتى إن بعض الأقلام الفلسطينية، ولدواعٍ مختلفة لا نشكك فيها، طالبت المقاومة بإطلاق سراح «المحتجزين المدنيين» لدى المقاومة كبادرة إنسانية، ومن دون مقابل، ومن زاوية إظهار أخلاقية المقاومين، وقد فعلتها المقاومة مرتين، علماً أنهم مستعمِرون فوق أراض فلسطينية محتلة منذ عام 48، تُسمّى «غلاف غزة»، ولكنّ هذه الأقلام لا تعترف بأن منطقة 48 هي أرض محتلة أصلاً، بل لا ترى فلسطين سوى الضفة والقطاع، في مسخ لحقيقة الوطن، وتشويه مشبوه للوعي، الذي لم تنجح به للحقيقة هذه الأقلام على المستوى الشعبي، لذلك ظل أصحاب هذا الموقف معزولين تماماً.
وعندما يتم الحديث عن احتمالية صفقة تبادل الأسرى، يتم الحديث عن «المدنيين» الصهاينة الأسرى لدى المقاومة، باعتبارهم رهائن أو محتجزين، وضرورة إطلاق سراحهم، من دون الإشارة، ولو لمرة واحدة، إلى أن آلاف المعتقلين الفلسطينيين هم أصلاً مدنيون. فمعظم المعتقلين، وهم بالآلاف، ومنهم أكثر من 1200 معتقل إداري، هم أصلاً معتقلون مدنيون، فيما المئات فقط منهم اعتُقلوا بفعل المقاومة المسلّحة، هم مقاتلو حرية، وهذا التعريف ليس بحكم منطق الصراع والحق في المقاومة وأخلاقية هذا الحق، بل وفق القانون الدولي.
إنّ استخدام المصطلحيْن، «المدنيين والجانبين»، بات في ظل الصراع القائم يساوي بين مَنْ يمارس الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد شعبنا والجريمة ضد الإنسانية، وبين مَنْ يمارسون كل هذا الإجرام. هذا الموقف بحد ذاته هو انحياز إلى المجرمين، وإذا كان «مفهموماً» من الإمبرياليين الأوروبيين والأميركيين اتخاذ هكذا موقف، غير أن بعض العرب والفلسطينيين، المعزولين شعبياً، لن يحصدوا من موقفهم هذا سوى العزلة الإضافية التي تليق بهم.

* كاتب فلسطيني وأسير سابق