بغضّ النظر عن النتيجة السياسية والعسكرية والديموغرافية النهائية لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، فإنّ غزة ستدخل التاريخ، بوصفها المكان الذي شهد أكبر عدد من المذابح في التاريخ، التي نفذت ضدّ ضحايا غالبيتهم الساحقة من المدنيين ومن خلال قصف جوي.هناك مدن قتل فيها عدد أكبر من المدنيين في قصف جوي مقارنة بغزة (منها مدن: هامبورغ، درزدن، هيروشيما، ناكازاكي)، لكن هذه المدن قصفت خلال الحرب العالمية الثانية التي كانت حرباً شاملة. هيروشيما قصفت للحظة واحدة، هامبورغ لمدة أسبوع. لكن هذه المدن الأربع كان فيها جيوش وبنية عسكرية ومصانع لها علاقة مباشرة بالمجهود الحربي. أمّا غزة، فإن القتل فيها يطاول ويستهدف، عن سابق إصرار وتصميم، المدنيين أساساً. في الحقيقة، غزة هي المدينة الوحيدة في التاريخ التي تشكّل نسبة الأطفال والنساء المقتولين فيها 68%. وإذا أضفنا إلى ذلك نسبة كبار السنّ من الرجال، فإننا نصل إلى نتيجة مريعة.
كما أن عدد هذه المذابح التي تشكّل جرائم ضد الإنسانية، وليس جرائم حرب، ستدخل التاريخ بوصفها أوّل مذابح في التاريخ تتواصل على مدار الساعة ولمدة تقارب الشهر في بث مباشر على الهواء. عند حصار سراييفو الشهير الذي استمر 1425 يوماً، قصف الصرب سوق سراييفو (سوق ماركالي) في 28 آب/ أغسطس 1995 بخمس قذائف هاون أدّت إلى مقتل 43 شخصاً. شاهد العالم في بث مباشر صور القصف ومنظر القتلى والجرحى، كما يشاهد اليوم صور غزة الأكثر فظاعة من حيث العدد والزمن. استفزّت صور سراييفو العالم بأسره، ما أدّى إلى قيام حلف «الناتو» بشن حرب جوية على القوات الصربية حتى هزيمتهم. بالمقابل، في مذبحة واحدة من بين 500 مذبحة، قامت إسرائيل بإلقاء قنبلة ضخمة على المستشفى الأهلي المعمداني، حيث قتل 500 مدني. ماذا كان ردّ فعل الغرب؟ ليس قصف القوات الإسرائيلية كما قصفوا القوات الصربية، بل تحميل «حماس» المسؤولية، رغم أنهم يعرفون أن صواريخها البدائية الصنع (التي وصفها الرئيس الفلسطيني بالعبثية) تستطيع بالكاد أن تقتل شخصاً واحداً.
هذه المذابح هي أيضاً أوّل مذابح في التاريخ تحظى بدعم كامل من «الديموقراطيات الغربية» الرئيسية (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، إيطاليا) ودونما أيّ تعاطف مهما كان مع الضحايا، رغم أنها تبثّ على الهواء بشكل مباشر وليس هناك أيّ شك بشأن هوية مرتكبها. وهذا الدعم ليس سياسياً وديبلوماسياً وإعلامياً فحسب، بل هو عسكري أيضاً، وفي معظم الأحيان عكس رغبة شعوبها التي تتظاهر في الشارع ضد مذابح غزة وضد موقف قادتها المتواطئين مع إسرائيل. خلال الحرب الفييتنامية، وبعدما تسرّبت أخبار مذبحة واحدة فقط قام بها الجيش الأميركي، وهي مذبحة قرية «ماي لاي» الفييتنامية، قامت الدنيا ولم تقعد في العالم وفي الولايات المتحدة. أمّا في حالة غزة، فيقوم بايدن وماكرون وشولتز وسوناك وميلوني بتصوير المذابح، لموظفي وسائل الإعلام الغربية، كحالة دفاع عن النفس.
في حصار سراييفو الشهير الذي استمر 1425 يوماً، قتل ما مجموعه 13952 شخصاً خلال الحصار، بينهم 5434 مدنياً والباقي عسكريون، ما يعني ما يقارب من 4 قتلى مدنيين يومياً. أمّا في غزة فيموت فيها جراء القصف ما لا يقل عن 355 شخصاً يومياً جميعهم من المدنيين الأبرياء، وهذا الرقم لا يشمل من هم تحت الأنقاض والذي يتجاوز 2000 شخص. خلال حصار مدينة ستالينغراد نفسها الذي استمر 162 يوماً والتي تحوّلت إلى أيقونة مقاومة ضد النازيين وبشاعتهم، قتل في المدينة المكتظّة بالجنود 40 ألف مدني أي بمعدل 247 يومياً، أي أقل من معدلات قتل غزة. في معركة الفلوجة الثانية التي تعدّ أكثر الأحداث دموية في حرب العراق والتي تعرضت لـ 46 يوماً من القتل والحصار، قتل 1400 مدني بمعدل 31 قتيلاً مدنياً يومياً. أمّا في حصار وقتال مدينة الموصل الذي استمر لـ 9 أشهر ويعدّ أعنف حلقة في مسلسل الصراع مع تنظيم حركة «داعش»، فقد قتل ما يقارب من عشرة آلاف مدني بمعدل 37 مدنياً في اليوم. فقط في حصار مدينة لينينغراد الطويل والذي استمر لسنوات، كان معدّل القتلى من المدنيين في اليوم الواحد أكثر من غزة، لكن معظمهم قتل جراء الجوع والبرد والمرض.
حتى الروس في أوكرانيا الذين يصفهم الغرب بأسوأ النعوت، ومنها أنهم برابرة، فإنهم سمحوا بممرات آمنة وبتوصيل المواد الغذائية عكس غزة المحرومة من الماء والغذاء والكهرباء، وتحرم حتى من الطاقة الضرورية لتزويد مولدات المستشفيات بالكهرباء.
في الختام، فإنّ القتل في غزة، والذي يأخذ شكل الإبادة الجماعية، لم ينجم عن ضعف في «احترافيّة» الجيش الإسرائيلي، أو قصور في القدرة على تحديد الأهداف الدقيقة، أو بسبب الغموض في تحديد ماهية المذبحة، وإنّما عن سابق إصرار وتصميم ثلاثة أطراف: الحكومة والجيش في إسرائيل اللذان يريدان الانتقام من تمريغ «حماس» لأنفهم في التراب وترميم «صورتهم القوية»، وشغف الجمهور الإسرائيلي المسكون بفكرة استثنائية اليهودي، وتواطؤ قادة «الديموقراطيات الغربية» الفاسدين.
منذ عام 1948، أظهر التاريخ أنّ إسرائيل لا تلتزم بالقواعد المنظّمة للحرب بحسب القانون الدولي، وأنّها تنفّذ ما تريد طبقاً لحساباتها ومصالحها وأهدافها، لأنّها تشعر، بفضل الدعم الأميركي غير المشروط، أنّها حالة استثناء عصيّة على المساءلة والعقاب في المنظومة الدولية.

* باحث فلسطيني