ترد جملة الأراضي المقدّسة، عوض فلسطين، في بيانات البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان. أتت تلك البيانات في ضعفٍ مُشين أمام الأحداث الجسام (انظر مقالتنا في «الأخبار»: المواقف الرسميّة للكنائس في بلادنا حول فلسطين اليوم)، ضعفٌ يتضارب مع متطلّبات الإنجيل، ذلك أنّ هذا التعلّق بالأرض المقدّسة غير مقدّس البتّة حين يترافق مع كلام من نوع «الحرب بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين» وهروب من تسمية الأشياء بأسمائها.
لا مقدّس أعلى من الإنسان، لأن المقدّس هو الإنسان بوصفه على «صورة الله»، وهو ما فهمه المسيحيّون منذ بدايات المسيحيّة. ولا يمكن حصر القداسة بالمسيحيّين دون أن يخون الإنسانُ المسيحَ القائل أنّ الروح القدس يهبّ حيث يشاء ولا أحد يعرف موضعه، والذي وضع المسيحيّين أمام مسؤوليّاتهم على هذه الأرض حين قال لهم إنّ موقفهم من المهمّشين هو الذي سيحدّد مصيرهم يوم الدينونة. فأيّ جماعة هي أكثر تهميشاً من الفلسطينيّين المطرودين من أرضهم والخاضعين للاحتلال والتنكيل من نظام عنصريّ؟ لا قداسة تُرتجى من دون الشهادة الكاملة لهذا الحقّ.
إن كان وجه المسيح يطلّ إلينا بشكل مميّز في وجه المهمّش المسحوق، فإنّ المقدّس هو هذا الوجه بالذات، هو كلّ بريء قضى ظُلماً، والإنسان الفلسطينيّ الذي يتلقّى حقد العالم ودولة الاحتلال العنصريّة، وهو في منزله أو على الطرقات أو في المستشفى، هو الذي تتكثّف فيه القداسةُ بقدر تكثّف الحقد في العنصريّ القاتل. لا أرض مقدّسة أكثر من جسد الأبرياء، لا أرض مقدّسة أكثر من طراوة وجوههم النقيّة التي تحاول الإشراف على آفاق الحبّ والحياة، فترفع يد الحقد أمامها جدار الألم والموت. ولا يعرف القتلةُ أنّ موت الأبرياءِ شهادة تخترق جدار الموت لأنّ الأبرياء يصبحون أولاداً لله يُرزقون وأنواراً تتراجع أمامها عتمات الموت. وتخترق شهادة الأبرياء جدار الموتِ لأنّهم حاضرون أبداً بيننا ليؤجّجوا في الأحياءِ الشوقَ إلى الحرّية ونبضَ التضحية، لأنّهم بشهادتهم الزكيّة يشعلون نضال الأحياء لدخول ملكوت الكرامة البشريّة عنوةً. الفلسطينيّون هم أكثر مَن يوضح لنا اليوم معنى جملة يسوع الغامضة أنّ ملكوت الله يؤخذ عنوةً (لو ١٦: ١٦)، إذ لا يضمّ الإنسان الحرّية والحبّ إلّا بنضالٍ وجهادٍ، وهو يتابعهما إلى آخر العمر فيصدّ هجمات البرابرة من كلّ العقائد والأجناس على كرامته فـ«لا فرق بين عربيّ وأعجميّ إلّا بالتقوى»، أي باحترام كرامة الإنسان وحرّيته. ذاك أنّ كلّ الناس إخوة ولا «غريب» عن الإنسانيّة إلّا من غرّب نفسه عن قلبه فصار شيطاناً لأخيه وأخته. والحقيقة أنّ الشيطان الأكبر لا يكمن في البشر الأفراد، ولو كانوا أشراراً حتّى النخاع، وإنّما في الأنظمة التي يخلقها الأشرار لتصير مصنعاً للشرّ. الرأسماليّة مصنع شرّ، والصهيونيّة مصنع شرّ، كلاهما يسطوان على أرواح البشر فيحوّلونهم إلى جنود شرّ تغزو العالم لتسحق وتنكّل وتفتك بأرضنا المقدّسة: أجساد الأبرياء.
شهداء غزّة اليوم هم الذين يحرّرون شعوب العالم من خداع حكومات أوروبا وشمال أميركا


لهذا، لا تحريراً كاملاً لنا إلّا بدحر أنظمة الشرّ تلك، المولّدة للحروب والموت. وبطريقة غريبة، حين نهزم جلّادينا سنفتح لنا أبواب الحرّية ونهزم أوهاماً، أن يتحرّروا بعدها من أوهامهم أو لا يتحرّروا، سيكون ذاك شأنهم، هذا نقوله رؤيويّاً على ضوء الكلام النبويّ الذي ذكّر الإنسانيّة بآفاقها بقوله «الخلق كلّهم عيال الله». كلّ همّنا أن يخرج شعبنا إلى الحرّية وألّا يلامس طراوة الأولاد سوى حضن الأمّهات. شهداء غزّة اليوم هم الذين يحرّرون شعوب العالم من خداع حكومات أوروبا وشمال أميركا إذ تُسقط أدوات الاستعمار الحديث الذي عمل على استعمار عقولنا بخطابات «حقوق الإنسان» و«حرّية التعبير»، وما كانت تلك إلّا ستاراً لمشروعه الاستعماريّ المستمرّ داسها في أوّل تهديد لمشروعه في فلسطين.
من أجساد شهدائنا، من طراوة أطفالنا، سينفجر الفجر الجديد، فجر الحرّية والحبّ، وسيمحو آثار ٧٥ عاماً من الاحتلال والتنكيل والقتل، لتكون أمُّنا فلسطينُ حرّةً، فتدلّي لنا من سدرة المنتهى في قُدسها نوراً عظيماً يرفعنا إلى السماء.

* كاتب وأستاذ جامعي