متى يبلغ السيل الزبى؟ ومتى يفيض الكيل؟ وذلك لوضع حدٍّ للتمادي، غير المحدود، في تدمير قطاع غزة، وقتل المدنيين، وأغلبهم من نساء وأطفال، قتلاً، بلا توقف وبلا حدود. القرار الذي تعكسه الممارسة من جانب قادة الكيان الصهيوني، وبضوء أخضر أميركي، يعلو ويخفت. لكنه متواصل، وقد اتُّخذ مشاركةً بين حكومتَي بايدن ونتنياهو.وإنّ قراءة دقيقة، للفترة التالية للسابع من أكتوبر، تؤكد أن القيادات الصهيونية والأميركية فقدت صوابها، وتخلّت عن كل تقاليدها السابقة في الصراع والحروب. صحيح هي نفسها من حيث الأسماء والمراكز والمواقع، والأهداف المعروفة خلال المئة سنة الماضية، لكنها بعد المشهد الذي حمله السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أحدثت سمات غير معهودة، من قبل. فقد اختلفت العلاقة بالسياسة والممارسة، وكيفية تحقيق أهدافها أو المحافظة على أهدافها ومصالحها. كيف؟ كانت ثمة «عقلانية» محددة، مناسبة، في إدارتها للصراع، أو خوضها للحروب. وهذه «العقلانية»، مثلاً، كانت ترتكب المجازر، ولكن تحاول إخفاءها، أو نسبها لفئات متطرفة، كما حدث مثلاً مع مجزرتَي دير ياسين والطنطورة عام 1948/1949. وكانت تنتهك القانون الدولي، وتعتدي على المدنيّين في الحرب، ولكن كانت تحاول إخفاء ذلك أيضاً، أو نكرانه، أو محاولة إيجاد أسباب مخففة. وهذا يعني أنها كانت تمارس حروب العدوان والعنصرية والإمبريالية، مع تقيّد نسبي باحترام قوانين الحرب وأعرافها، والقوانين الدولية. وهي كانت من المشاركين والموقّعين على القوانين الدولية، واتفاقات جنيف الرابعة في الحرب.
أمّا ما بعد السابع من أكتوبر، فقد حدث انقلاب على كل ذلك، وقد دفع إليه ما يمكن تسميته: الجنون، أو فقدان الصواب. وهو ما تمثّل خلال الحرب التي شنّت على مدنيّي قطاع غزة، وعلى أبنيته وأحيائه ومساجده، وكنائسه ومدارسه ومستشفياته، فهي حرب تحمل سمات الإبادة البشرية، وجرائم الحرب، وانتهاك القوانين الدولية الإنسانية، وحقوق الإنسان، علناً وبالمكشوف، وبعدم مراعاة للرأي العام والضمير العالمي. وهذا تحدٍّ خطير للعالم ومستقبله.
هذه المواقف لم تكن معهودة من قبل في استراتيجيات الكيان الصهيوني، أو الاستراتيجية الأميركية، أو الاستراتيجيات الأوروبية. ومن هنا يكون فقدان الصواب والجنون من ورائها، وتفسيراً لها.
وبكلمة، إن العالم يواجه الآن قيادات أميركية وصهيونية، خرجت على قواعد الصراع، والحروب السابقة. ولهذا لم ينفع حتى الآن، لوقف الحرب الإجرامية الإبادية، كل ما مورس من ضغوط ومواقف من قِبَل غالبية دول العالم (قرارات الجمعية العامة لهيئة الأمم حول الحرب في قطاع غزة)، والفيتوات الأميركية ضد صدور قرار في مجلس الأمن لوقف الحرب، والقمة العربية والإسلامية، والتظاهرات.
في السابق، ما كان للكيان الصهيوني، ولأميركا وأوروبا، تحدّي الإرادة الدولية والقوانين الدولية بهذا المستوى، كما يحدث الآن، الأمر الذي يعني أن وقف الحرب (وقف القصف الجوي المجنون على القطاع وأهله) لا يزال بحاجة إلى المزيد من سفك دماء المدنيين، وإلى المزيد من الدمار حتى تُمارَس ضغوط أشدّ، وتُتّخَذ مواقف حازمة، لوقف الحرب من قِبل دول العالم، وبدايةً من الدول العربية والإسلامية، ودول العالم الثالث، والرأي العام العالمي.
إنّ مواجهة حالة جنون بكل ما تحمل الكلمة من معنى يجب ألّا تعامل معاملة عدوّ شرس لديه درجة من «العقلانية» (لمصلحته، كما كانت الحال في الماضي)، وإنما تحتاج إلى معاملة حالة جنون، وبما يناسبها من حزمٍ مقابل لا تفهم غيره.
الأمر الذي يعني أن على كل معارضي حرب الإبادة ضد الإنسانية في قطاع غزة أن يرفعوا من مستوى الحزم في وقف الحرب. وهنا لا بد من أن يتحكّم قانون وضع الرطلين مقابل الرطل، حتى ترجح الإرادة العالمية ببقاء قوانين دولية، وأعراف متفق عليها، وقيم عليا لمنع سيادة قانون الغاب، كقانون وحيد في العلاقات الدولية. ومن ثم، أولاً، إنقاذ قطاع غزة إنساناً وحجراً.

* كاتب وسياسي فلسطيني