«السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ في حدّهِ الحدُّ بينَ الجِدِّ واللَّعبِ
بيضُ الصَّفائحِ لا سودُ الصَّحائفِ في
مُتُونِهنَّ جلاءُ الشَّك والرّيَبِ
والعِلْمُ في شُهُبِ الأَرْمَاحِ لامِعَةً
بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لا في السَّبْعَةِ الشُّهُبِ»


حين همّ الخليفة العباسيّ المعتصم (833م – 842م)، بالثأر لمذبحة زبطرة (837م)، التي نفّذها البيزنطيون، قيل له إن عمورية، بعيداً في الشطر الغربي من الأناضول، هي أمنع حصون الروم، وحيث يصفها أبو تمام بأمّ نظامهم الدفاعي في الأناضول، فيقول:
«أُمٌّ لَهُم لَو رَجَوا أَن تُفتَدى جَعَلوا
فِداءَها كُلَّ أُمٍّ مِنهُمُ وَأَبِ»


وبرّ الأناضول موحش لكل غازٍ وعابر، استعصى على العرب بكليّته، واستعصى على الساسانيين، وقبلهم الآشوريين، لقسوة مناخه، ووعورة تضاريسه، وجلافة أهله! هنا شاع أن المنجّمين وقتها ثنوا المعتصم عن فتح عمورية، فقالوا له:
«إنّا نجد في كتبنا أن هذه المدينة لا تفتح إلا في وقت إدراك التين والعنب، وبيننا وبين ذلك شهور، يمنعك من المقام بها البرد والثلج» (نهج الصباغة، للتستري، ص 162 - 163).
لكن المعتصم لم يأبه بهذه الآراء، فسار بجيش عرمرم، وفتح عمورية بعد حصارها.

فتح عمورية لم يكن حدثاً عظيماً يتيماً، إنما كان جزءاً من مسار تألّق حضاري عربي - إسلامي أوسع. فعلى المستوى العسكري، فتحت بالرم (باليرمو) عاصمة صقلية اليوم (828م)، على يد القائد العباسي الحراني أسد بن الفرات (توفّي 828م)، لمصلحة العباسيين وولاتهم الأغالبة في القيروان. وقبلها إقريطش (جزيرة كريت) (824م)، على يد مجموعة من المنفيّين الأندلسيين، ممّن تمرّدوا على بني أمية بقرطبة.
قبل الحديث عن ابن الفرات والأندلسيين، الآن فقط اتّضح لي سياق أبيات الشاعر الشامي أبي تمام (توفّي 845م)، وهو يعيب تخرّصات المنجّمين. المنجّمون الكهنة تحوّلوا منذ الألفيّة الثانية قبل الميلاد إلى طبقة مؤثّرة في قرارات الحرب والسلم والعلاقات بين الممالك. الشعر النقدي لأبي تمام كان جزءاً من الثورة العقلية النقدية والعلمية العربية الإسلامية، في بغداد العباسية، ضدّ ما يمكن تسميته بـ«التركة البابلية» التي ظلّت حيّة إلى القرن السابع الميلادي على الأقل، كما يظهر من ردود ساويرا سابوخت النصيبيني (توفّي 667م) (Saliba: 2001, p47). المنجّمون ظلّ لهم نفوذ في المدائن الساسانية على الأكاسرة وبعدهم على الخلفاء العباسيين.
بينما ينشد مؤسس دولة الأغالبة الفقيه المجاهد إبراهيم بن الأغلب، أبياتاً يسخر فيها من تراث المنجّمين، ويفخر بأسرته، فيقول:
«نحن النجوم بنو النجوم وجدنا.. قمر السماء أبو النجوم تميم»
السخرية من تراث المنجّمين هو أيضاً سخرية من التقاليد البالية التي كانت متوطّنة بريف أغلب دار الإسلام. حيث كان أغلب أهل الريف العراقي، وحتى الشامي من نبط آراميين، على «التركة البابلية»، ينظرون للنجوم على أنها تمظهرات للآلهة الرافدينية والشامية القديمة. الغالبية العظمى من هذا المجتمع الفلاحي المغلوب على أمره، لم تكن فقط تمقت فكرة الحرب والجهاد، التي ما كان يرى له فيها مغنماً ولا معنى، إنما كان يتهرّب أيضاً من فكرة دفع الضرائب، لحكام لا يشبهونه. ما يعني أن أغلب الرعيّة، بفضل تراثها الخرافي، خارج المشاريع الكبرى للإسلام. اعتناق الإسلام غيّر كل ذلك، لأنه كان سيعني مساهمتهم فيها.

تركة المنجّمين
على مذهب أبي تمام، لا أبي حنيفة ولا مالك، رحمهم الله أجمعين، عندما تقوم الحرب، لا معنى كثيراً للتحليلات الاستراتيجية، وحتى تلك الاقتصادية أحياناً، فإنّ أمرها كما كتب صديق يوماً، كأمر التنجيم. لأنّ الكفاح المسلّح يشقّ سبلاً ما كانت لنا منظورة، فالمحلّل يحلّل كيف تخاض الحرب أمسِ، لا اليوم أو غداً، لذا فجلّ تحليلاتهم إسقاطات من حروب مضت.
بينما في كل مرة تُهزم فيها قوات النظام الدولي، مباشرة أو وكالة، يثبت لنا أننا كمن يكتشف أصول الحرب من جديد، أن المحارب المتمرّد على النظام الدولي، سواء اليمني بجزيرة العرب، أو الفلسطيني بأرضه، أو حتى الروسي بجبهة الدومباس، دائماً ما يتفوّق على المحلّل الاستراتيجي، ويدحض على الأغلب توقّعاته.
تركة المنجّمين البارحة واليوم لا تزال بيننا، لكنها اليوم لا تعتمد على تتبّع الأفلاك السماوية لتضليل الناس، وإنما تعتمد ما يصدر عن البروباغندا المضلّلة والمحبطة لشعوبنا حتى لا تنصر فلسطين. المنجّمون اليوم هم جيش من المحلّلين الاستراتيجيين، والخبراء الاقتصاديين الذين يخبروننا يومياً أن حربنا ستنتهي بهزيمة، وأن أكلافها باهظة، حتى نظلّ كنبط لبدوا خارج التاريخ، ننظر إلى أجناد الثغور كأغراب. بينما نبط آخرون انتظموا في ملحمة تشكّل ثقافتنا العربية الإسلامية الصاعدة، كأجناد، وفقهاء، وعلماء، مسلمين، ومسيحيين، وصابئة، وملاحدة.
أمّا مقاتلو المقاومة الإسلامية تحديداً، فكان يعاب عليهم أنهم يُقادون من معمّمين وفقهاء ظلاميين، تلصق بهم أبشع الأوصاف. وكأن ظهور هؤلاء ليقودوا شعوبنا هو استثناء في تاريخنا. لكن هناك تجارب عديدة، يدخل فيها الفقيه مصلح فساد وفتن العسكر والعشيرة، الذين يحوّلون الناس إلى «نبط» مغلوبة على أمرها.
من ينظر إلى تاريخنا الحديث منذ تشكّل الدولة الحديثة، أنه باستثناء حقب زمنية ثورية قصيرة نسبياً، ساد تحكّم العسكر والسلالات الملكية. وحتى لا نلج في التفاصيل فإنّ هؤلاء لم يفسدوا فقط، إنما جمّدوا الطاقات الكامنة لمجتمعنا بدل إطلاقها بثورة كما فعل الخميني في إيران، وحزب الله بين شيعة لبنان، وفصائل المقاومة الإسلامية بغزة، وغيرهم في اليمن والعراق. لكنّي سأحيلكم لتجربة من تراثنا وهم الأغالبة في تونس.

إفريقية الأغالبة (800 م – 909م)
إحدى الفرضيات التفسيرية لمعنى اسم إفريقيا، أنها من مفردة فينيقية «فرق»، بمعنى المجزوء أو المقسوم. أي أن هذه الأرض أو المجتمع المتشكّل منها مجتزأ من مجتمع «أمّ» أي بمعنى جالية وهو لربما يصف حال الفينيقيين الذين استوطنوا إفريقية، منعزلين بذلك عن وطنهم الأمّ على الساحل الشامي. على أيّ حال، إن صحت هذه الفرضيّة - وأنا شخصيّاً أرجّحها - فهي تشرح مرة أخرى طبيعة تونس كأرض بعيدة نسبياً عن المراكز الإمبراطورية التاريخية. لكن هذا الموقع استرايتجي وغنيّ بموارده، ما مكّنها من أن تستقلّ نسبياً عن الخلافة العباسية.
حين يرد ذكر إفريقية هنا بالتاء المربوطة، فالمقصود بها هي ولاية إفريقية الإسلامية، وكانت تشمل غرب ليبيا وتونس وشرق الجزائر تقريباً. أمّا القارة فستكتب إفريقيا بالألف. أمّا بالنسبة إلى إفريقية، قبل وصول الأغالبة إليها، فقد كانت دياراً تمور بفتن العسكر العربي (كفتن اليمانية والقيسية) وفتنة العسكر الخراساني، وثورات البربر والخوارج، تغذّيها مؤامرات الأدارسة في المغرب الأقصى. كل ذلك كان سيعني أن هذه البقعة لن تستقر، فلا الأدارسة مهيّأون لانتزاعها كلياً وتثبيت أنفسهم بها فتستقر أحوالها، ولا فتن من مرّ ذكرهم فيها ستخمد.
العسكر الأموي، وبعده العباسي، كان دموياً مع الأهالي، بلا مشروع «تنموي» يدمج الناس بالخلافة. فكل ما كان يطلب هنا هو جمع الضرائب لتمويل حملات التوسع ومشاريع التطوير والبناء في المشرق. القيروان كانت قاعدة لتجمّع الغزاة العرب ومن رافقهم من بربر، إنتاجها ضعيف، وتكاليفها بالغة، فانهار في النهاية الريف الإفريقي، وعمّ الفقر.
وحتى لا يفقد خلفاء بغداد إفريقيا للأدراسة أو غيرهم، قرّروا تمويل إفريقيا مؤقتاً من مصر بمعونة 100 ألف دينار في العام. لكن ذلك ما كان حلّاً، حتى فهم العباسيون أن إفريقيا لن تستقر بالعسكر والقبائل العربية. وما كان يلزمها هو عسكري فقيه، موالٍ للبيت العباسي، وذو رؤية لإصلاح أحوالها.
تأسيس الإمارة الأغلبية في إفريقيا، وما جلبته من إصلاحات، كان جزءاً من الثورة العسكرية والعلمية والفكرية والأدبية نهض بها علماء، وفقهاء، وساسة، وأدباء، من طراز مثير للاهتمام في كل بلادنا. هذه التجربة لم تكن مثالية، لأنها من تجاربنا الأولى في تأسيس الدول كحضارة عربية إسلامية.
وقع الاختيار على إبراهيم بن الأغلب، وأسد بن الفرات، وغيرهما، الذين كانوا من أسر عسكرية عباسية، ساهم أجدادها في فتح خراسان، وبعدها في الثورة على بني أمية، ولاحقاً تسلّم أبناؤهم وأحفادهم مناصب قضائية، وعسكرية، وديوانية في طول ديار الخلافة وعرضها. بشكل ما كان العسكري منهم ينجب أميراً أو أديباً أو فقيهاً، والفقيه يتحوّل إلى مجاهد على سيرة الأسلاف، يشتركون في الفتح، شرقاً وغرباً، وهكذا.
مؤسس دولة الأغالبة كان إبراهيم بن الأغلب (توفّي 812م)، من عرب خراسان، لكنه نشأ في مصر، يعرفه ابن عذارى المراكشي (توفّي القرن 13م)، بكتابه «في أخبار المغرب والأندلس»، بالآتي: «كان إبراهيم بن الأغلب التميمي فقيهاً، أديباً، شاعراً، خطيباً، ذا رأي ونجدة وبأس وحزم وعلم بالحروب ومكايدها» (ابن عذارى، ص 116).
الأغالبة كانوا أسرة تميمية من الجيل الأول من الفاتحين العرب، وردّوا خراسان من البصرة، وقامت قبائل تميم بدور جوهريّ في فتح خراسان، وعاد أحفادهم مثل الأغالبة ليشاركوا في الثورة العباسية، وتأسيس دولة الأغالبة في غرب عالمنا العربي الإسلامي الواسع.
أمّا أسد بن الفرات، فولد بحران في شمال بلاد الرافدين، لأسرة ذات جذور خراسانية، ونشأ وتتلمذ بتونس، وبعدها رحل إلى العراق ليأخذ مذهب أهلها حينها، وهو مذهب أهل الرأي أو الحنفية. أسرة ابن الفرات الخراسانية الأصل أسلمت وذادت عن «دار الإسلام» أباً عن جدّ، وخدم أبوه الثورة والثغور مع جدّ الأغالبة الأغلب ابن سالم التميمي (توفّي 768م) بخراسان والعراق وبلاد المغرب.
لم يكن أسد بن الفرات مجرّد عسكري أو قاضٍ، إنما كان المؤسّس الأول للمذهب المالكي في شمال إفريقيا، لكن من سوء حظه، أن نسخته من المذهب رغم وضعه الأسس لمن جاء بعده لم تستمر. بينما شاعت بدلاً منها مالكيّة سحنون بن عبد السلام (توفّي 854م). ميزة «مالكية» ابن الفرات أنها كانت أكثر عقلانية وواقعية، وذلك لاختلاطها بعقلانية مدرسة أهل الرأي الحنفية ببغداد العباسية (راجع الذهبي، سير أعلام النبلاء، ص 1076).
لكن تأمّلوا معي أن هذا المجاهد الفقيه، ينحدر من سلالة مكرّسة لخدمة القضية وقتها، وساهم في ضمّ صقلية لأمّته، حتى تأمن سواحلها غزوات الروم. يصفه من قاتل تحته، بأنه كان يحمل اللواء ويقرأ سورة «يس»، والدم يسيل على قناة اللواء مخضّباً ذراعه (الذهبي: ص 1077)، لكن في الوقت ذاته يسهم في التأسيس لتقليد فقهي سيشمل كلّ شمال إفريقيا والأندلس.
إشراك الفقهاء في كسب المجتمع كان جزءاً من تاريخنا السياسي الذي لم يقم على السيف وأعراف القبائل وحدها. الفقهاء هنا لم يكونوا مجرد حفظة أحاديث وآيات دينية، بل كان أغلب من وصل إلى هذا المستوى من المسؤولية، معدّين بعلوم كالمنطق، والأدب، والتاريخ، والحساب، والفلك وحتى الفلسفة والتصوّف في مراحل متقدمة من نضج حضارتنا. وهي تقريباً المؤهّلات العلمية نفسها التي يحتاج إليها الإداري المبتدئ، الذي سيكسب مهارة ويراكم خبرة، كلما طال تصدّيه للمسؤولية الإدارية.
بمعنى آخر أن في تاريخنا كثيراً مثل إبراهيم بن الأغلب، وأسد بن الفرات، ممن كانوا يعدّون بشكل ما لأن يكونوا فقهاء أو قضاة، وفي مناصب إدارية ما. لكن فساد العسكر المحترف في حينها، وكثرة فتنهم، أوصلت الرجلين إلى أداء أدوار سياسية وعسكرية. الأمر لا يختلف كثيراً عن خروج الإمامين الخميني والخامئني، والسيّدين عباس الموسوي وحسن نصر الله، ليسيروا على خطى الشيخ عز الدين القسّام (توفّي 1935م) وعمر المختار (1931م)، الذين ساروا على خطى ابن الأغلب وابن الفرات. تعدّدت الطرق والمذاهب والمحجّةُ واحدة، مجتمع حر عادل فاضل!

ميراث الأغالبة
ميزة المشروع الأغلبي أنهم خلقوا لنا مجتمع إفريقية العربية الإسلامية، حين أسقطوا عطاء الجند العربي المشاغب، فانكسرت شوكتهم تدريجياً، فاندمجوا في الأهالي، متحوّلين بذلك من ظاهرة عسكرية طارئة، إلى نواة متجذّرة ومنتجة في تربة إفريقية. وكذلك لأول مرة نجح دمج البربر، بهوية إسلامية مالكية، منخرطة في الفتوحات، ونشر المذهب المالكي (راجع محمود إسماعيل، الأغالبة، 2000م).
حلّ الأغالبة مشكلة إفريقيا الاقتصادية، أولاً باعتماد سياسة ربط الخراج بما تغلّه الأرض وجبايته عيناً، فحسّنت أحوال المزارعين، وربطوا إفريقية بمسالك تجارة الذهب عبر الصحراء الكبرى، فجنوا أموالاً طائلة. هذا فضلاً عن الفتوحات المربحة في إيطاليا، التي سمحت للأغالبة بتصدير الفائض البشري العسكري نحو الأرض الجديدة المفتوحة، منهين بذلك غزوات البنادقة والبيزنطيين عليهم (محمود إسماعيل، الأغالبة، ص 39). سواحل إفريقية الأغالبة كتونس وطرابلس وبجاية ازدهرت، وغصّت، حسب تعبير محمود إسماعيل، بالتجار والنسّاك والمجاهدين (المصدر نفسه).
جلب الأغالبة تقنيات زراعية وإروائية كنظم متفوّقة كالقناطر المائية والماجل، وفنون معمارية مشرقية متفوقة جديدة، ستصل بعدها إلى الأندلس. وجملت الجوامع والقصور التونسية، حتى صارت شهرة جمالها حديث الروم في القسطنطينية (محمود إسماعيل، الأغالبة، ص 36). أمراء الأغالبة اعتمدوا فنون البلاط السامرائي والبغدادي بشكل خاص، وقلّدوا أمراء العباسيين في مظاهرهم، وملبسهم، ونمط حياتهم الترف (نفس المصدر ص 39).
أمّا القيروان، ففي عهدهم نشأت سمعتها العلمية، كمركز للفقه والعلوم والأدب والفلسفة، فجذبت لها أحدث التيارات الفكرية في عصرهم كالمعتزلة، الذين خاضوا صراعاً فكرياً مع المالكية. تحالف الأغالبة مع المالكية نجح في النهاية في لمّ الشتات الإثني والاجتماعي الإفريقي المتنازع، من عرب وبربر وروم وقرطاجيين وخراسانيين، وزنوج، ضمن مشروع الحضارة العربية.
الفقهاء لهم ميّزة هنا على العسكر، وهي قدرتهم على تكوين شرعية قانونية بفضل الشريعة، توحّد الناس في العصور الوسطى. ذلك لأن الشرع يعمل كالدستور، الذي يحرسه جمهور الفقهاء والطلبة، الذين هم على تواصل يومي مع الرعيّة وخاصة أنهم عادة يخرجون منها.
بمعنى أن الحلال والحرام فيها واضح نسبياً، إن توفرت شروط العدل والأمان. فأنت تعلم كم عليك دفعه من ضرائب، وما هو حكم الإرث إن ماتت زوجة أبيك الثريّة، وما هي حقوق أسير الحرب، وما هي عقوبة من يتجاوز على ذمي، وهكذا. ويمكن للناس دائماً أن يستشيروا الفقهاء، الذين سيلتقون بهم في الأسواق والجوامع والأعياد والحجّ وحملات الجهاد وغيرها من نواحي الحياة.
أمّا العسكر وشيوخ القبائل وقتها، فأغلبهم كان جاهلاً بشروط العدل وسنن الشريعة، ما يعرّض الرعيّة للابتزاز والتعسف، وليس لهم تركة ثقافية فكرية يستندون إليها لتبرير قراراتهم كالشريعة لدى الفقهاء.
بالمناسبة، الشرع كان ظاهرة حديثة بدأت تنضج بداية العصر العباسي، فهو ابتكار أوجده فقهاء المدينة والكوفة وبغداد بشكل أساسي، في الحقبة ما بين الـ 730م و930م تقريباً. النضج الشرعي هذا أخذ شكل مدارس فقهية، ورسائل وكتب، وحلقات علم. كان ذلك تطوّراً جديداً ساعد نسبياً على احتواء الفتن الموروثة منذ العصر الأموي في المغرب الكبير كفتن العسكر، وفتن العرب والبربر.

أجمل القصائد
سيتبع هذا الجزءَ جزء ثانٍ، ينظر في كيف بدأت المدارس الفقهية، من بطن الهزيمة! لكن قبلها تذكّرت أن للشاعر الشيوعي التركي العظيم ناظم حكمت (توفّي 1963م) قصيدة شهيرة، تقول أبياتها:
«أجمل الأيام،
تلك التي لم نعشها بعد
...
أجمل القصائد
تلك التي لم أكتبها بعد
وأجمل ما أريد أن أقوله لك
ما لم أقله بعد!»

لا أعرف أيّ قصائد سنكتب عن تحرير فلسطين؟ وأيّ أبيات؟ وأيّ شاعر، بعد مظفّر النواب ومحمود درويش، سيخلّد لأحفادنا، كأبي تمام، اسم أمّ الثغور الصهيونية؟ لكن ما أراه أن الصاروخ، والمسيّرة، وشهداءنا، سيخطّون لنا فصلاً باهراً لمستقبلنا!

* كاتب عراقي