إنّ 57 دولة وسواها قد مُنعت بـ«قيادة» السعودية من ممارسة ضغط حقيقي لوقف المجزرة
إزاء ذلك، كان لا مفر للسعودية من التحرك. بيد أنها اختارت أن تحوّل أزمة موقفها إلى فرصة، لممارسة ما تصبو وما تسعى إليه من دور «قيادي» يملأ فراغاً طال أمده منذ وفاة القائد العروبي التحرري الكبير جمال عبد الناصر، ولكن... على النقيض من نهجه! قرّرت قيادة المملكة أن توسّع من اتصالاتها و«تكبّر حجرها». هكذا وباستلهام هوس «القيادة» لدى الأمير محمد بن سلمان خصوصاً، فقد تمّت الدعوة لعقد عدة مؤتمرات على مستوى القمة: عربية وإسلامية وأفريقية، اختُصرت سريعاً بقمة عربية-إسلامية ترأّسها ولي العهد، وبلجنة اتصالات بـ«قيادة السعودية» أيضاً. وقف إطلاق النار المباشر والسريع كان هو الهدف العملي شبه الوحيد، ولكن ضمن دبلوماسية ناعمة تساوي بين مواقف وسلوك دول القرار في مجلس الأمن. ذلك بسبب أن القمة التي حضرها قادة وممثلو 57 دولة، لم يتضمّن بيانها الختامي تقييماً للمسؤوليات: مسؤوليات العدو وداعميه، ليُبنى على الشيء مقتضاه. في امتداد ذلك، لم تتضمّن نتائج القمة، لا في البيان المعلن، ولا في إجراءات وقرارات غير معلنة، تدابير وخططاً لممارسة ضغوط على الجهات المسؤولة عن التصعيد والمجازر والدمار الهائل والتهجير تحت وابل، لا ينقطع، من القصف والقتل والحرائق.
إن في حوزة هذا العدد الكبير من الدول المشاركة، الكثير من وسائل الضغط السياسية والاقتصادية، وحتى العسكرية، من نوع استخدام سلاح النفط، وتجميد مسارات التطبيع، وقطع العلاقات أو سحب السفراء، أو التهديد بشيء من كل ذلك. وتقع في مقدمة القادرين، على ممارسة ضغط مؤثر وفعّال، المملكة السعودية نفسها! وقد أشار عديدون إلى هذا الأمر، دون أن يترك ذلك أثراً في البيان أو في القرارات! لم يكن ثمة من داع لزيارة الصين وروسيا، إلّا لتعزيز انطباع بأن الدول الكبرى متساوية في موقفها من الأزمة، وأنه ينبغي مطالبتها أو التعامل معها بتوجّه واحد. وفق ذلك تساوت، مثلاً، موسكو التي تقدّمت بمشروع مبكر لوقف فوري لإطلاق النار، وواشنطن التي أحبطته، وتقدّمت لاحقاً بمشروع لإدانة «حماس» ولتأييد حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها عبر المجازر والقتل الذي لا يميز بين حجرٍ وبشر.
في الواقع، إن سبب ذلك عدّة أمور: أولاً، ما أشرنا إليه من التهرب من تحمل المسؤولية المعنوية والسياسية حيال الإجرام الصهيوني من نوع استخدام سلاح النفط أو مراجعة مسار التطبيع مع العدو. ثانياً، عدم إدانة موقف داعميه، بل شركائه في العدوان، خصوصاً واشنطن التي تولّت قيادة معركته الشاملة، مباشرة، ومن مكتب «الكابينت» الحربي: بالصوت والصورة! ثالثاً، عدم الخروج عن السقف الأميركي الذي حدّده الرئيس بايدن بشأن «حل الدولتين». وهذا الحل المزعوم، الذي رفضته دائماً إسرائيل برعاية أميركية متواصلة من موقع الوساطة الزائفة في الصراع، ليس إلا محاولة لادّعاء أفق سياسي للأزمة يدرك الجميع أن جديته تبدأ بتراجع واشنطن عن اعترافها بالقدس عاصمة موحَّدة للصهاينة، وبوقف مسلسل التطبيع وقبله الاتفاقيات معها من قبل الدول التي انزلقت إلى ذلك في صيغة معاهدات، قديماً، أو علاقات تطبيع، حديثاً، وآخرها المملكة العربية السعودية نفسها.
وعلى النهج السعودي وبقيادته سارت كلّ من القاهرة وعمّان. وهما تمايزتا بقلقهما الشديد من موجة هجرة أو تهجير فلسطينية من غزة أو الضفة حرصاً على النظام في البلدين، وليس رفضاً لمخطط أميركي أو صهيوني ضد الشعب الفلسطيني ولتصفية قضيته.
إنّ 57 دولة وسواها قد مُنعت بـ«قيادة» السعودية من ممارسة ضغط حقيقي لوقف المجزرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة معاً. وما جرى ويجري إنما يمثِّل قمة التفريط الذي لا ينمّ عن قيادة ولا يؤدي إلى امتلاكها. إنه ينمّ عن ذيلية للسيد الأميركي الذي لم تتراجع عدوانيته إلا بسبب حملة التضامن العالمية الهائلة مع تضحيات وبطولات الصامدين والمقاومين ممن أثبتوا، مرة جديدة، أن الشعب الفلسطيني يستحق، ليس دويلة على جزء من فلسطين، بل دولة حقيقية على كامل ترابه الوطني. أمّا القيادة، فلا تُفتعل أو تُشترى أو تُستأجر، بل هي تُكتسب في مجرى الدفاع عن المصالح الوطنية والقومية، لا عبر التخلي عنها!
* كاتب وسياسي لبناني