إنّ تقدير الموقف حول الهدنة الإنسانية لمدة أربعة أيّام في قطاع غزة بين حماس والكيان الصهيوني، وبوساطة قطرية - مصرية، وبدعم أميركي، يكاد يُجمع، ولا سيما في الصحافة الصهيونية، ومن جانب كثيرين من المعلّقين، بأن الهدنة جاءت بعد تراجع نتنياهو والقيادة الموحّدة معه. فقد كانت مقترحة من قبل، ولم يقبلوها، وأصرّوا على استراتيجية استرجاع «الرهائن» تحريراً، وبالقوّة. ومن ثم فتراجعه، تراجعهم، ما كان ليحصل إلّا بعدما يئسوا من نتائج المعركة البريّة، ليس على مستوى تحرير الرهائن فحسب، وإنما أيضاً، على مستوى الحرب البرّية، ككل، أو قل حتى الآن. لأن الاحتمال الأقوى هو أن تعود الحرب على أشدّها، سواء أكانت الحرب على المدنيين والأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس، أم كانت الحرب البرّية.
فلا تزال أميركا مرتبكة، متردّدة في الحسم، بسبب النتائج العملية المترتبة على الحربين، وخصوصاً الحرب الفضيحة بالنسبة إليها، والموجهّة ضد المدنيين، المخالِفة، بصورة صارخة للقوانين الدولية الإنسانية، والتي راحت تَصم أميركا بالسكوت والتواطؤ، على ما يُرتكَب من جرائم حرب، وجرائم إبادة، إن لم تُتّهم بالمشاركة مباشرة، من خلال طائراتها وقذائف طائراتها التي لا تُباع إلا بشروط تقيّد استخدامها، بموافقة الرئيس الأميركي والبنتاغون. وكذلك أيضاً بسبب فقر النتائج من خلال الحرب البريّة، وقد ضمّت خبراء أميركيين لمساعدة جيش العدّو في إدارة الحرب البريّة.
لا شك في أن الاحتمال الأسطوري من قِبَل أهالي قطاع غزة، سمح في مواجهة ما تعرّضوا له، من تقتيل وتدمير، كما الصبر على أقسى ألوان الآلام، بسبب الفقدان، بالجملة، للأقارب والأحبّة والمعارف، وبسبب الحرمان من الدواء والماء والطعام، وتعطيل المستشفيات، كما أشدّ العذاب النفسي.
وبكلمة، لولا الإيمان بالله، ووعده للشهيد الذي لا يموت، ويبقى حياً يُرزق، بكل خير من عند ربه سبحانه وتعالى، ولولا التصميم على تحرير فلسطين، ورفض احتلالها، بالقوّة الغاشمة، وإقامة الكيان الصهيوني الذي اقتلع الملايين وشرّدهم وحلّ مكانهم، لما كان هذا الصمود والاحتمال الأسطوريان، ونصرتهم لقضية فلسطين.
وأمّا العامل الحاسم الذي يقود المواجهة في الحرب البرّية، كما في حرب الصمود، واحتمال ما عاناه أهالي غزة، فهو قيادة المقاومة، وكوادرها ومقاتلوها، إذ يواجه أهلهم، الأب والأم والولد والأقارب، وسط الأهالي، وما يعانونه من القصف الوحشي، بلا زيادة، أو نقصان. ثم هنالك الدور الأول: المقاومة التي راحت تُفشل الاقتحامات، ونقاط التغلغل في القطاع، بإنزال أفدح الخسائر، في الجند والضباط، كما في الدبابات والآليات.
لقد أصبح من المؤكد، عبر التجربة العملية وليس عبر تقدير الموقف الصحيح فحسب، أن الحرب البرّية ستنتهي بتراجع وهزيمة في الميدان، يلحقان بالجيش والكيان.
ولا شك في أن الهدنة المؤقتة، لأربعة أيام، تعطي دليلاً على تراجع، في كل من موقفَي قيادتَي الكيان الصهيوني وأميركا، قياساً بمواقفهما السابقة طوال 45 يوماً، في الأقل وهما يرفضان وقف إطلاق النار ويعلنان أشدّ التصميم على حسم موضوع تبادل الأسرى عسكرياً.
على أن ما يحتاج إلى وقفة أكثر تدقيقاً، إنما هو قراءة ميزان القوى الراهن، الذي كان، بدوره، وراء التراجع الصهيوني - الأميركي من جهة، وبما يسمح باستشفاف دوره لاحقاً، مع تجدّد القتال، من جهة أخرى.
يشير ميزان القوى الراهن بالنسبة إلى الكيان الصهيوني وأميركا إلى ما يأتي:
1- رأي عام مليوني في كل بلدان العالم، انطلق ضد الحرب الوحشية التي راحت تحصد المدنيين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، حصداً. وتدمّر المباني والبيوت والمساجد والكنائس، والمدارس والمستشفيات تدميراً، الأمر الذي جعل سمة الكيان الصهيوني وأميركا، باعتبارهما مجرمي حرب وإبادة إنسانية، ويمارسان الانتهاكات المعلنة للقوانين الدولية الإنسانية، وتلك الخاصة بالمدنيين والمنشآت المدنية، ما يشكل عاملاً ضاغطاً جداً عليهما، حاضراً ومستقبلاً.
2- الغالبية العظمى من دول العالم تطالب بوقف إطلاق النار، وشجب القتل الجماعي للمدنيين، ما جعل الكيان الصهيوني وأميركا في حالة عزلة دولية خانقة.
3- فتحت جبهات متعدّدة ضد الكيان الصهيوني وأميركا في لبنان والعراق واليمن، وكلها تطالب بوقف العدوان على قطاع غزة، ما يتهدّد الحرب بتوسّعها، على ضدٍ من السياسة الأميركية.
4- الفشل في الحرب البرّية، بالرغم مما حدث من اختراقات واقتحامات، إلّا أن المبادرة واليد العليا استمرتا من نصيب المقاومة، كما أن ثمة خسائر يومية فادحة تلحق بالدبابات والآليات والأفراد في جيش العدو، ما أفشل خطته الهجومية، ووضعه في حالة استنزاف يصعب عليه احتمالها أكثر.
تشكّل هذه النقاط حالة ميزان قوى عام، في غير مصلحة الكيان الصهيوني وأميركا، الأمر الذي سيسهم، مع تصاعده أكثر، في تقرير مصير الحرب، بهزيمة تنتظر منهما التراجع، فالتراجع عن استراتيجية قتل المدنيين وتدمير قطاع غزة، كما التراجع عن وهم القضاء على المقاومة الممثّلة بقيادة «كتائب عز الدين القسّام»، و«سرايا القدس». ويسمح بمرحلة جديدة تحمل استراتيجية المضيّ للتحرير الكامل لكل فلسطينيّ إن شاء الله.

* كاتب وسياسي فلسطيني