دلّل السيّد حسن نصر الله - خلّد ذكره - في خطاب له لجمهور المقاومة عمّن خذلهم، بأنه لولا خذلان أهل المدينة للحسين في كربلاء (680 م)، ما كانت لتقع وقعة الحرّة فيهم (683 م)! لأن اليثاربة، كالكوفيين والبصريين، تقاعسوا عن نصرة الحسين بدعوى أنّ لهم أنفساً، وأعراضاً، وأموالاً، وأولاداً ونساء، يخافون عليها أن تنتهك، فضنّوا على أهل بيت النبي فيها. فكان أن استفرد بهم الأمويون، فسلّط عليهم يزيد بن معاوية، مسلمَ بن عقبة، وابن عقبة هذا، قيل كان عسكرياً غليظ القلب، بارّاً لبني أميّة، ولع بسفك دم عدوّهم، وهو الذي فقأ الشيعة عينه بصفّين (657 م)، وهو يقاتل أميرهم علي بن أبي طالب. إذاً، نحن أمام قائد قدّم عينه كرماً لتنهض دولة أميّة، وعاش ما بين صفّين والحرّة 26 عاماً أعور حاقداً متربّصاً على من يخرج عليهم. صورة مسلم هذا، ستلبد بتراثنا تحت اسم مسرف، لأنه حين تسلّط على أهل المدينة، أباحها لجنده ثلاث ليالٍ، ففضّت بكارة آلاف من الفتيات، وولد آلاف الأطفال لا يعرف لهم صلب!العبرة المخيفة لنا نحن - عرب اليوم - أن معظم بلادنا تشبه أهل يثرب، الذين خذلوا عليّاً وولده كخذلان أغلب العرب أهل غزة، طبعاً، أنا أستثني جبهة المقاومة، وأرفض المزايدة الرخيصة المشبوهة عليهم. فجبهة المقاومة وفت وكفّت، ولا يفتي من رأسمال ممانعته مقاطعة ستاربكس وتغريدات بليدة، لمن حفر الأنفاق، وسيّر فيها الكتائب والأجناد، وحرّر لبنان والعراق، وذاد عن اليمن وسوريا وغزة.
على أيّ حال، حرصت أن أستعمل اسم يثرب، لعدّة أسباب، منها أنه ينقل لنا الصورة البشرية ليثرب المدينة التائهة قبل ورود النبي، ويثرب المدينة المتخاذلة عن نصرة الإمام علي. فهي بذلك ليست «المدينة المنوّرة»، ذات الدور التاريخي البطولي بانطلاق الإسلام، إنما المدينة التي تتنازعها الأهواء والأساطير المؤسسة للفاجعة اللاحقة. أمّا اسم المدينة فهو تعريب للاسم الآرامي لها مدينتا، حسب ما وردت لدى إسطيفان البيزنطي (عاش في القرن السادس الميلادي).
ينقل لنا مؤرّخونا صورة سلبية لدور اليثاربة المتقاعس عن نصرة الإمام علي ضدّ والي الشام المتمرّد معاوية بن أبي سفيان (توفّي 680 م)، فابن كثير يقول: «وكان عليّ لما عزم على قتال أهل الشام، قد ندب أهل المدينة إلى الخروج معه فأبوا عليه» (البداية والنهاية، ج 7، صفحة 231). ويذكر أيضاً: «قال الشعبي: ما نهض معه في هذا الأمر غير ستة نفر من البدريين ليس لهم سابع، وقال غيره: أربعة» (البداية والنهاية، ج 7، صفحة 234). وهناك نصيحة تقدّم بها أبو أيوب الأنصاري (توفي 674 م)، ترد في كتاب الفتوح لأحمد بن أعثم الكوفي (توفّي 927 م)، وأبو أيوب من أخلص شيعة الإمام علي، خرج معه ورفع رايته بكل معاركه. نصيحة أبي أيوب الأنصاري، جاءت حين أراد نقل عاصمته نحو الكوفة. فنصحه أبو أيوب: «يا أمير المؤمنين! إني لأشير عليك أن تقيم بهذه البلدة فإنها الدرع الحصينة ومهاجر رسول الله، وبها قبره ومنبره فأقم بها، فإن استقامت لك العرب، كنت بها كمن كان من قبلك، وإن تشعب عليك قوم، رميتهم بأعدائهم من الناس»، فردّ الإمام علي: «صدقت يا أبا أيوب! ولكن الرجال والأموال بالعراق، وأهل الشام لهم وثبة، أحبّ أن أكون قريباً منهم، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا!» (كتاب الفتوح، الجزء الأول، ص 447).
لكن خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة، عقّد المشهد على الإمام علي، وشوّش المشهد أكثر على أهل المدينة، فانقسم اليثاربة أكثر. ففضّل أغلبهم ألّا يخرج مع علي، لا إلى البصرة ولا إلى الشام. فما كان من الإمام علي إلا أن ينقل حكمه إلى الكوفة ليواجه فتنة أهل البصرة والشام، رغم خذلان أغلب اليثاربة له. هنا خطب الإمام علي فيهم خطبة لم تشتهر، كخطبته بأهل العراق، عرفت (بخطبة أهل المدينة)، ومنها:
«أيتها الأمة التي خدعت فانخدعت، وعرفت خديعة من خدعها فأصرّت على ما عرفت، واتّبعت أهواءها... وقد استبان لها الحق فصدّت عنه، والطريق الواضح فتنكّبته... أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لو اقتبستم العلم من معدنه... وسلكتم من الحق نهجه، لنهجت بكم السبل، فأكلتم رغداً، وما عال فيكم عائل، ولا ظلم منكم مسلم، ولا معاهد، ولكن سلكتم سبيل الظلام فأظلمت عليكم دنياكم برحبها... رويداً عما قليل، تحصدون جميع ما زرعتم، وتجدون وخيم ما اجترمتم وما اجتلبتم... أما والله لو كان لي عدة أصحاب طالوت أو عدة أهل بدر وهم أعداؤكم لضربتكم بالسيف حتى تؤولوا إلى الحق وتنيبوا للصدق فكان أرتق للفتق وآخذ بالرفق!» (المجلسي، بحار الأنوار، ج 28، ص 240).
المؤلم في ما يخص تاريخ الأنصار، كما يعرف أهل المدينة المنورة، أنهم كان لهم موقف تاريخي ثوري بنصرة النبي. لكنهم حين خرجوا أخيراً، بعد خذلانهم الإمام علياً والحسين كليهما، تحت راية إمام كالذي كانه ابن الزبير (قتل 692 م)، فانتهت حالهم لمذبحة الحرة.

من نبونيد إلى بني أمية!
لربما لم تكن يثرب يوماً مجتمعاً موحداً إلا في حقبتَي الدعوة المحمدية والفتوحات الراشدية. ما يهمّنا هنا أن ننظر في طريقة تشكل شخصية المدينة التي تعوّدت على الانقسامات السياسية التي أضعفتها. لا نعرف شيئاً عن تاريخ يثرب التي عرفت بـ«أتريبو»، قبل أن يرد ذكرها أول مرة في سجلات السلالة الكلدانية البابلية في القرن السادس قبل الميلاد، كآخر نقطة توغّل للممالك الرافدينية في جزيرة العرب، لربما باتجاه احتكار خط تجارة البخور واللبان اليمني.
لكن الملك البابلي نبونيد (556 ق.م – 539 ق.م)، وهو من مواليد حران كأسد بن الفرات بالمناسبة، سار بجيشه من بادية الأردن نحو أتريبو، لربما سالكاً الطريق نفسه الذي سلكه مسرف بن عقبة. الطريق الذي سلكه البابليون كان جديداً عليهم بدون شك، فلم يسبق لجيش مشرقي أن توغل عبر الصحراء العربية بهذا العمق. فهل سنرى يوماً أحد الطامحين، يسلك الطريق نفسه، ليدنّس أو يحرّر مقدساتنا الحجازية المحتلة؟
أتريبو، كغيرها من مدن شمال غرب الجزيرة العربية، كان فيها استيطان تجاري يمني معيني، جعلها مدناً ثرية جداً، لكنها مستفزة للبابليين لسبب ما. فعمل ملوك بابل نبوخذ نصر (605 ق.م -562 ق.م)، ونبونيد على تصفية الوجود المعيني بها، وتوطين خليط من بابليين وآراميين ويهود وعرب ولاؤهم لبابل. المدن التي من المرجح أنها تعرضت للتصفية والتوطين، هي «ممالك» خبرا (خيبر)، وأدوماتو (دومة الجندل)، وتبوك، وديدان (العلا حالياً) ثم بداكو (فدك الإسلامية، حالياً الحايط)، ويديخ (يديع، حالياً الحويط) (راجع جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جزء 1 وجزء 4).
المثير في هذا الموضوع أن السرديات الشفوية اليهودية وبعض الأخبار العربية ستستبدل بهوية الغزوات الاستيطانية البابلية التي قام ملوك الأسرة الكلدانية من مثل نبوخذنصر ونبونيد الكلدانيين، شخصيات يهودية مثل الملك داود والنبي موسى، أو هذا ما وصلنا عنهم (جواد علي جزء 4، ص 129).
حين وصل الأوس والخزرج ما بين القرن الثاني والثالث الميلاديين إلى يثرب، أي بعد سبعة قرون أو ثمانية، وجدوها مسكونة بشكل خاص من اليهود، الذين كانوا على الأغلب ممّن وطنهم نبونيد. لكن الخزرج رغم كونهم يمنيين يختلفون قليلاً عن الأوس، فالأوس أساس تحالف عشائري ملتفّ حول الإله مناة، لذا فإن اسمهم الحقيقي هو أوس مناة ومعناه هبة مناة (جواد علي، جزء 4، ص 135). وهم بذلك أهل عقيدة على ما أرجح أكثر من الخزرج الذين كانوا أكثر عشائرية منهم. وهذا لربما يشرح لِمَ حالف أغلب اليهود الأوس، ضد الخزرج الذين لم يقف معهم أثناء الحرب الأهلية الطويلة في يثرب سوى يهود بني قينقاع وحلفائهم من الأعراب؟
المثير للغرابة، كما يرى جواد علي، أنه ليس في يثرب أيّ معبد وثني لعربها، رغم كون الأوس والخزرج من الوثنيين. ولهذا احتمالان، إمّا لأن التأثير اليهودي كان قوياً جداً فلم ينجح مثل هذا المشروع الديني، أو أن الأوس والخزرج كليهما كانوا شبه أعراب لا خبرة لهم بالمعابد.
كانت يثرب مدينة غير مسوّرة، كالحيرة بالضبط، لكن تكثر فيها الآطام، والآطام هي حصون عربية تنتشر في كل الجزيرة العربية وتعرف في العراق خصوصاً الحيرة بالقصور (جواد علي، جزء 4، ص 132). وكان الأوس والخزرج يتقاتلون على الآطام، التي يحتمي فيها الموسرون من أهل المدينة عند تعرض المدينة لغزو خارجي.
الأوس والخزرج لم يؤدّوا الأتاوة لملك قط، حتى إنهم تعرضوا لغزو ملك اليمن أبي كرب أسعد الحميري (390 م – 420 م)، لأنهم قتلوا ابنه الذي أمّره عليهم. ففرض الملك عليهم حصاراً قاسياً، وخرّب بساتينهم وقطع نخلهم. لكن عرب يثرب كان لهم طريقة مثيرة في المقاومة، حيث كانوا يحاربونه نهاراً ويكرمونه وجيشه ليلاً بالعشاء (جواد علي، جزء 4، ص 133). في هذه الأثناء قاتل اليهود والعرب معاً الحميريين، حتى أتى الملك حبرين يهوديين من أهل يثرب، وعرّفاه على عقيدتهم، فأعجبه علمهم، وتهوّد وأخذهم معه لنشر عقيدتهم في اليمن (الكامل في التاريخ، ابن الأثير ج 1، ص 321).
يبدو أن اليهود استقووا بعد ذلك أكثر، وفي حوالي منتصف القرن السادس الميلادي، جاء يهود يثرب على ما يبدو بزعيم يمني يهودي لقّب بالفطيون ليُؤمَّر على يثرب. فكان هذا الفطيون يسيء معاملة الأوس والخزرج ويعتدي على نسائهم، حتى قتله أحد شجعان الخزرج، واسمه مالك بن عجلان! فرّ مالك بعد فعلته إلى إمارة الغساسنة، وكان بينهم أمير مقدم فيهم من الخزرج اسمه أبو جبيلة. نجح ابن عجلان في إقناع أبي جبيلة بغزو يثرب ليكسر شوكة اليهود وليشرك عرب يثرب في مالهم وبساتينهم وآطامهم، فنجح في ذلك بعدما قتل وجهاء اليهود بحيلة. ردّ اليهود بتصوير مالك بن عجلان على كنسهم وصوامعهم، ليراه المصلّون ويلعنوه (جواد علي، جزء 4، ص 134).
لكل مدينة ولادة متأخّرة! غزة هاشم لم تكن يوماً ذات دور مركزي في وعينا ومصيرنا وثقافتنا، لكنها اليوم تولد أمامنا كشرارة لنهضة أمّة الغرباء التي قد تضيء المنطقة من جديد


رغم تغلب العرب على يهود المدينة، إلا أنه في الحقبة ما بين 550 م حتى هجرة النبي محمد عام 622 م إليها، خاضت يثرب حرباً أهلية طويلة بين الأوس والخزرج واليهود. وقف فيها بنو قريظة والنضير اليهود ضد الخزرج وحلفائهم بني قينقاع اليهود، وقبائل بدوية من خارج يثرب. دمرت تلك الحرب المجتمع العربي اليثربي، وألهتهم عن زراعة أرضهم، وتعلّم التجارة، وغيرها من صنائع. بعد هجرة النبي تشكلت أول مرة أمة «مؤمنين» تجمع كل أهل المدينة، عرباً ويهوداً، واستمرت لسنوات حتى خيانة بني قريظة والنضير وقينقاع للحلف الجديد أو «الأمة» بمعركة الخندق حين حاصرت قريش يثرب سنة 627 م (Hoyland: 2002).
أسلم كثير من اليهود، وحسن إسلامهم، فاستشهدوا دفاعاً عن الأمة الجديدة، ومنهم ولد الفطيون، الذين قاتلوا إلى جانب أبناء قاتل أبيهم مالك بن عجلان، في معارك بدر واليمامة، وغيرها. بعد وفاة النبي، سيجتمع اليثاربة مرة أخرى لمخالفة القرشيين، على الخلافة، لأنهم رأوا أنفسهم أحق بها من الإمام علي وبقية المهاجرين القرشيين، لكنهم سيفشلون.
من ينظر لتاريخ يثرب سيرى أنها مرت بمراحل، ففي بدايتها يبدو أنها حاولت أن تنافس بقية مدن قوافل البخور واللبان المتجهة إلى اليمن. بمعنى كان مشروعها كله أداؤها دوراً صغيراً مرتبطاً باليمن، لا يحمي المدينة من غزوات الجيران، حتى جاءهم الغزو الكلداني فدمرت، وخسرت هويتها الأولى وتوطّن قوم أغراب فيها، سيشكلون أهلها.
«يثرب الكلدانية»، إن جاز الوصف، صارت مدينة منقسمة على نفسها، تعمّها العداوة والتنافس، ميّالة إلى التمرّد منذ أيام الهيمنة الحميرية، في القرن الرابع الميلادي حتى هجرة الرسول. مدينة ابتدأ تاريخها بإبادة حين وطئها نبوخذنصر في القرن السادس قبل الميلاد، حتى انتهت شخصيتها المتمردة بمذبحة شنيعة في عصر يزيد (680 م – 683 م).
في مدن ودويلات صغيرة كيثرب، سيكون مصيرك الاندثار، إن لم تلتحق بمشروع إمبراطوري وطني يشبه ثقافتك المحلية. حسناً فعل اليثاربة بنصرة الإسلام، لكن قيم الثورة الإسلامية بينهم تشتت وعادوا، بعد رحيل النبي، لسيرتهم الأولى، مجتمعاً منقسماً لأشياع وفرق. ما فشل فيه اليثاربة قبل غيرهم، أنهم عجزوا في فهم القيمة الثورية لأهل بيت النبي فراهنوا على مُسح دجالة بدل الالتفاف حول الإمام علي وولده منذ اليوم الأول.

تركة المقتلة الأموية تشكل هويتنا
بدون شك، تركت مأساة وقعة الحرة أثرها في تراثنا وتكويننا، فالمدينة المنورة أو يثرب لم تكن المدينة الهامشية التي غزاها الكلدان والمعينيون، بل كانت حتى ذلك الوقت عقل المجتمع الإسلامي.
ومن الآثار المباشرة على أهل زمانها، أنها غيّرت شخصية المدينة الاجتماعية، لدرجة أن إمام مدرسة المدينة مالك بن أنس (توفّي 795 م)، الذي ولد بعد نحو ثلاثة عقود من هذه الفظائع، كان شديد الحساسية من مسألة الثورة والعصيان، فأورث أتباع المذهب قولاً حفظناه صغاراً لمن نشأ بين المالكية: «أن لا يجوز الخروج على الإمام، إلا اذا أظهر الكفر البواح، أو امتنع عن إقامة الصلاة». لا بد أن أسرة مالك اليثربية، قد شهدت أهوال وقعة الحرة، وأورثت لجيل كامل من بعض اليثاربة، عبثية مقاومة السلطة المتجبرة، الذين تحوّلوا تدريجياً على ما يبدو من ثقافة التمرد إلى إنتاج الأدبيات الدينية الدعوية والعلوم الفقهية.
ولا أستبعد أن تكون هذه المجزرة، إضافة إلى معركة كربلاء (680 م)، قد أثّرت كذلك على السكون الذي تبنّته مدرسة مدنية أخرى، وهي الإمامية أول أيامها في عصر الأئمة زين العابدين (توفّي 713 م)، والباقر (توفّي 732 م)، والصادق (توفي 765 م)!
الخير الذي ولد من باطن الشر، كما يقال، أوجد لنا مدرستين فقهيّتين، خدمتا العالم الإسلامي من مشرقه لمغربه. وهنا أتحدث عن الإمامية والمالكية؛ دور المذهب الإمامي واضح من خلال النهضة السياسية والمجتمعية التي أطلقها الإيرانيون في المنطقة، والتي رأينا آثارها اليوم في لبنان والعراق واليمن وغزة. بينما قدّمت المالكية التأصيل الفقهي، لفكرة استقرار الممالك الإسلامية بشمال أفريقيا، وهي بلاد بمجملها ثغور، والتفاف الأمة حول وليّ أمرها ضرورة قصوى هناك.
أمّا الإمامية، فكان لا بد من أن تمر بفترة انتظار طويلة تعدّ العدّة الآيديولوجية، والمادية والعددية، ولولا ذلك لانقرض الشيعة، فيما لو أن أئمة أهل البيت جميعاً حملوا السلاح ليموتوا بمعارك غير متكافئة! من هنا، قد نفهم مقولة الشيخ الصدوق (توفّي 991 م) شرح أهمية تثبيت جماعة علمية متخصصة آمنة ومنتجة، بقول عن الإمام جعفر الصادق، بأن «إذا كان يوم القيامة، جمع الله الناس في صعيد واحد، ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» (من لا يحضره الفقيه، ج 4، صفحة 292).
بالمناسبة، إن اليهودية مرّت بالمسار نفسه، قبل الإمامية والمالكية بقرابة ستة قرون تقريباً. ذلك أن أتباع يهوه لم يحوّلوا عقيدتهم إلى الديانة التي نعرفها اليوم، إلا بعد تدمير الهيكل سنة 70 ميلادية على يد الرومان، وما تبعه من هزيمة للثورات اليهودية في القرنين الأول والثاني الميلادي. هنا كان لسحق ثورة بار كوخبا سنة (132 م – 135 م) في فلسطين نهاية المجتمع اليهودي المتمرد، وانكسار شوكته. هذه الهزيمة دفعت اليهود إلى إنتاج أدبهم العقائدي التلمودي في فلسطين وبابل، عبر إنتاج فقهي تراكمي غيّر اليهودية كعقيدة إلى الأبد.

«وأذن لأمة الغرباء أن تنهض!
نسافر كالناس، لكننا لا نعود إلى أيِّ شيء... كأنَّ السَّفرْ
طريق الغيوم. دفنّا أحبّتنا في ظلال الغيوم وبين جذوع الشجرْ
وقلنا لزوجاتنا: لِدْنَ منّا مئات السنين لنكمل هذا الرحيلْ
إلى ساعةٍ من بلاد، ومترٍ من المستحيلْ
لنا بلد من كلام. تكلّمْ! تكلّمْ! لنعرف حدّاً لهذا السفرْ»
[محمود درويش]


محمود درويش، كفرد وكفلسطيني، كتب قصائده كسليل حضارة غرباء، والغربة في تراثنا جمر ثوري، يتوهّج كقصائد وآيات، أنبياء، شهداء، أوطان تنهض، تثور، وتحترق، كتابات، وأناشيد، أساطير وتواريخ، أبطال وزهاد، كل ما مرّ وأكثر جمرنا الوهاج في عتمتنا لترى القادم! محمود درويش في قصيدته تلك يعلن غربة شعبه عن هذا العالم، كأنهم في سفر بلا نهاية! وبعد سلب وطنهم، لم يعد لهم وطن سوى الكلام، علّه يعوّضهم عن الوطن! الإسلام وصفه بعض المستشرقين، كمغامرة غنوصية عظمى، ما تراه ليس ما يبدو لك، كأغلب قصائدنا وأغانينا الأصيلة! فأنت هنا كبغدادي أو حلبي ينشد أغنية «فوق النخل فوق»، هل هو خلّ لنا فوق، أم لمع القمر فوق النخل هو؟ المعنيان صحيح، والغريب منا يذوق المعنيين. وهي كذلك قصائد مظفر، وأغاني وأشعار ريف جنوب العراق، كل قصيدة أصيلة لها معنيان، معنى باطن ومعنى ظاهر، وهذه تسمى لدينا حسجة (الجيم تنطق ك ch)! وكذلك هي مقاومتنا بقدر ما تظهر لك حريصة على الشهادة، لكنها تشتاق إلى الحياة العزيزة أكثر!
يذكر الجيل الأقدم منا ممّن عايش الحرب الأهلية اللبنانية، شيوع مصطلح الغرباء على كل الفلسطينيين والسوريين، ممن كانوا جزءاً من تلك الدراما المسلحة. ومن المؤكد أن أطلق هذا الشعار كمن جلب النحس لنفسه، حيث لم يكن في حسبانه أن قوة متينة صلبة للغرباء ستنهض من أشلاء الضحايا ورماد الخراب! كانت تلك المقاومة الإسلامية، التي ستعرف بحزب الله!
المقاومة تلك كانت مقاومة الغرباء، ليس بالتوصيف اليميني الانعزالي فحسب، ولكن حتى بتوصيفه النبوي أيضاً، وهذه لكم هنا حسجة أخرى! فالغربة كانت وما زالت عنصراً أصيلاً من عناصر الإسلام، كثورة كامنة، كغربة زين العابدين والباقر في المدينة، وغربة الخميني في النجف! حقيقة لطالما فهمت الإسلام كعلماني غير متدين مطلقاً، كثورة اجتماعية كما وصفها بندلي جوزي (توفي 1942 م)، وهو المستشرق السوفياتي ذو الأصول الفلسطينية، والذي خرج من عباءته هادي العلوي، الماركسي الذي دلّني على التراث العربي الإسلامي.
فهذا مسلم بن الحجاج (توفّي 875 م) في صحيحه، ينسب للنبي محمد، مقولة بديعة وهي: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء» (صحيح مسلم، ص 130). يشرح لنا أحمد بن حنبل (توفّي 855 م)، أن الغرباء هم «النُّزَّاعُ مِنَ القَبَائِل»، والنزاع هم من يهجرون قومهم طلباً للحق والإصلاح، وأشهر نزيع أو نازع في تراثنا الديني هو إبراهيم الخليل، الذي سار على نهجه النبي محمد بهجرته (راجع موقع صفحة مجموع فتاوى ابن باز جزء 3، باب بدأ الإسلام غريباً). الغرباء هنا حسب توصيف ابن حنبل من يهجرون قومهم أو يتغربون ليصلحوا حال الناس! يفهم من كل هذا أن الإسلام بدأ غريباً، كثورة ضد فساد النخبة الجاهلية بمكة، وسيعود غريباً كثورة على الاستكبار والفساد، كما حصل مع تجربة الإمام الخميني.
الظلم الطبقي، التعسف الطائفي، والغطرسة الإسرائيلية مع سكان جنوب لبنان وغزة أوجدت أمة الغرباء، التي شكلت مقاومتها المسلحة، وهي بذلك تحيي دور الإسلام وهويته كمشروع إصلاح وثورة على الفساد والظلم. وحدها الصدفة التاريخية تفسر لنا لماذا تفتقت قريحة الإبداع اليميني في لبنان لوصف المناضلين بدورهم كـ«غرباء» لا يشبهون بقية لبنان الذي أجرم سفاحو اليمين لدوامه. رجال حزب الله ونساؤه الأوائل كانوا غرباء كالمهاجرين والأنصار يوم بدر، لكنهم اليوم أمة تتسع، من خراسان إلى اليمن.

جبهة المقاومة أم المحور؟
في تصوّري، وعلى الأقل في ما يخصّنا وعالمنا، أن لكل مدينة ولادة متأخرة! غزة هاشم لم تكن يوماً ذات دور مركزي في وعينا ومصيرنا وثقافتنا، لكنها اليوم تولد أمامنا كشرارة لنهضة أمّة الغرباء التي قد تضيء المنطقة من جديد. والفقهاء المجاهدون الثوريون، يعيدون نفض هذه المنطقة كما فعل أسلافنا قبل أزيد من ألف عام!
لا يهم غزة إن كانت اليوم قلب محور المقاومة أو جبهتها، لكني أرى، أن تعبير محور هو ترجمة لأدبيات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى والثانية، بنعت ألمانيا وحلفائها، بمحور البربرية والعدوان! هذا التعبير تمّ توريثه لنا كاستمرار لمحور الهمجية والدكتاتورية والشر!
ثقافة حلف الأطلسي، تعتمد هذا الإسقاط اللفظي والرمزي علينا، بغية تحقيق رغبتهم بإلحاق الهزيمة بمحور شر كما فعل أجدادهم في الحربين العالميتين. فهم، أي الحلفاء، وهي حالة حضارية منطلقة من تفاهات دولية، ضد مجموعة من الدول الآبقة التي ستهزم، يعبر عنها بمحور شر.
طبعاً لا يهمّ إن كان لقبك عنترة أو شيبوبا، فالسيف أصدق إنباء من الألقاب والنعوت، لكن برأيي المتواضع، أرى أن تعبير جبهة المقاومة أليق بنا من محور! فلقد انتهى ذلك اليوم الذي يرانا فيه عدوّنا أرقاماً ينعتها كما يشاء، فنرضى! مجاهدونا جميعاً هم حزب الله وجبهة مقاومة! وليس كحربنا هذه ما يعيد لنا آدميّتنا، لنكون شخوصاً بأسماء، لها تاريخ، وثقافة متجذّرة، لا مجرد أرقام، ومحور شر يدحر!
* كاتب عراقي