«الصياغة المُضمرة» لنص الهدنة، في ضوء الإقرار بالحاجة إلى تمديدها، تعكِس حاجةً كبرى لدى جميع «الأطراف» إلى إنهاء الحرب، بعد أن تحوّلت الأخيرة إلى عبءٍ كبير على القيادة الأميركية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تأكيد إسرائيل منح يوم إضافيّ لقاءَ إطلاق حركة «حماس» سراح أسرى إسرائيليين جُدد، هو بمثابة تعزيز لفرضية قُرب انتهاء الحرب، بعكس ما تشيعه قرارات «الكابينت» الصهيوني حول عدم التعارض بين الهدنة واستمرار الحرب.
جباية الثمن
ما تنطوي عليه الهدنة، لجهة الاتفاق على تبادل الأسرى، هو الثمن الذي سيجبيه كلُّ «طرفٍ» من الحرب. بمعنى آخر، فإنّ المقاومة ستخرج منها ليس فقط غيرَ منكسرة، بل محصّنة أيضاً بشرعية سياسية إضافية، بسبب تمكّنها من إخراج أكثر من 100 أسير وأسيرة من سجون الاحتلال. وفي مقابل هذا التقدّم المحرَز على الجانب الفلسطيني، ثمّة تراجعٌ كبير في الحصيلة النهائية، إن لم يكُن هزيمة كاملة لدى الصهاينة. فعلى الأرجح، لن ينتهي المأزق الإسرائيلي الذي بدأ مع الاقتحام الكبير للمستوطنات، في السابع من أكتوبر، هنا - أي في ضوء صفقة التبادل التي ستُخرِج أكثر من خمسين أسيراً إسرائيلياً لدى المقاومة -. لأن المسألة ليست في استعادة الدولة الصهيونية أسراها لدى «حماس»، كما هي الحال لدى المقاومة، بقدر ما هي في إخفاقها في الوصول إلى الهدف الذي وضعته لحربها، وهو تدمير الحركة، سياسياً وعسكرياً.

«الواقعية» في تحديد الأهداف
معادلة الخروج غير المُعلَن من الحرب، بهذا المعنى، ليست متساوية. ثمّة طرف يبدو وكأنه «تفوَّق» عسكرياً، عبر استخدام الإبادة، ولأوّل مرة بهذا العنف، لجباية ثمنٍ سياسي كبير من غزّة وأهلها، غير أنّه أخفق في الوصول إلى أهدافه، بعدما اتّضح أن ثمن الاستمرار في التدخّل البري سيكون أكبر من طاقته على الاحتمال، ليس كجيش أو كبنية عسكرية فحسب، بل كاقتصاد وكموارد بشرية أيضاً. وفي المقابل، ثمّة حركة مقاومة مسلّحة لم ترفع السقف إلى حدود الكلام عن تدمير الدولة الصهيونية، على غرار ما فعلت إسرائيل في حديثها عن إنهاء البنية السياسية والعسكرية لـ«حماس»، بل وضعت «أهدافاً واقعيّة» لاقتحامِها المستوطنات، قبل أن تتحوّل إلى موقع الدفاع عن أهلها وشعبها داخل حدود قطاع غزّة. «تواضُع» المقاومة الفلسطينية في تحديدها للأهداف المقصودة من عملية «طوفان الأقصى»، هو الذي يضعها في موقع غير متناظِر مع إسرائيل. فلو اختارت لعمليتها أهدافاً أبعد بكثير ممّا تستطيع حركة مقاومة مسلّحة أن تفعله، في ظلّ اختلال كبير في موازين القوى العسكرية لمصلحة الجيش الصهيوني المدجّج بالتكنولوجيا العسكرية، لما أمكن لها أن تبقى متقدِّمة، سياسياً وأخلاقياً، وحتى عسكرياً، على الصهاينة، حتى وهي تخسر أجزاءً متزايدة من شمال القطاع، والكثير الكثير من الحاضنة الشعبية التي تؤيّدها (بالمعنى الجسدي لا السياسي).

خاتمة
على أنّ الواقعية هنا لا تعكِس بالضبط جوهر الصراع السياسي الذي انطوَت عليه هذه الحرب. فانطلاق المقاومة من أهداف عسكرية واقعية لحربها، لا يعني أنّ الأفق السياسي الذي وضعته منذ البداية لعمليتها، كان واقعياً، بدوره. فما كانت تعنيه الواقعية السياسية فعلياً قبيل وقوع الحرب، هو بالضبط عكْس ما باتت تعنيه بُعَيدها، أي مع الانتقال من نطاق إدماج إسرائيل في الإقليم، اقتصادياً وسياسياً، إلى نطاق إخراجِها منه، تحت وطأة الضربات التي تلقّتها من المقاومة، وذلك في مجرى الحرب كلّها، لا في بدايتها فحسب لدى اقتحام مستوطنات الغلاف. هذا الأمر لم يكُن ممكناً، من دون إجبار الدول التي كانت تقود مسار التطبيع الاقتصادي مع الدولة الصهيونية، إن لم يكُن على عكْس هذا المسار، تماماً، فعلى الأقلّ إيقافه مؤقّتاً، إلى غاية اتّضاح نتائج الحرب ومآلاتها.
في سياقٍ كهذا، لا تعود الواقعية السياسية نتاجاً للهزيمة النظامية المزمنة تجاه إسرائيل، عبر محطّات «كامب ديفيد» و«أوسلو» و«وادي عربة»، وصولاً إلى اتفاقيات «أبراهام»، بل تصبح، على العكس من ذلك، حصيلة الوعي المضاد الذي قاد إليه تراكم عمليات المقاومة الفلسطينية منذ حرب عام 2008 ولغاية عملية «الطوفان» في السابع من أكتوبر الماضي. وبالمثل، فإنّ عملية التبادل، ومعها الهدنة التي تحقِن دماء المدنيين الفلسطينيين لحين اتضاح أفُق الحرب، عسكرياً، تغدوان بدورهما تعبيراً عن الواقعية السياسية الجديدة، بما هي التجسيد الفعلي لعجز آلة الحرب الصهيونية المتزايِد عن مواجهة الفاعلين غير الدوليين في الإقليم. ما ستضيفه هذه الحرب على الأرجح، هو ترجمة هذا العجز إلى وقائع سياسية، سواء داخل الكيان أو خارجه، بما يتجاوز تعطيل وظيفته ضمن الإستراتيجية الأميركية، إلى حدّ إعادته إلى وضعية «القلعة المحاصَرة» التي كانت تمثّلها إسرائيل في الإقليم، قبل الشروع في مسارات «السلام» مع العرب والفلسطينيين.