يشاهد الإنسان شاشات التلفزيون ويسمع أجهزة الراديو ويقرأ الصحف اليومية ويتابع وسائل التواصل الاجتماعي ويحضر الندوات والمناظرات والمؤتمرات ويصغي إلى الخطابات وتتحصّل لديه كل هذه النسبة العالية من المعلومات، تصل إلى جهاز التلقي عنده الذي تشترك فيه حواسه الخمس، وكذلك أدوات إدراكه من العقل والقلب إلى الحدس والوجدان، ما يجعل هذه الآلات الإنسانية ضحيةً من ضحايا وسائل الإعلام المتطوّرة وقد حملت معها التقنية العالية وفلسفة الإعلام البرلمانية والدعائية، ما يفتح أبواب الشك ويجعل الحيرة والظن والتخمين القوى القادرة على الفهم، لكنها غير القادرة على اليقين. ولا أدري إن كان الفهم كفعل للفاهمة يرتبط بالإدراكات الدنيا أو العليا للإنسان، وهل يستطيع العقل أن يفكّ رموز المعلومات والإدراكات ويعيد ربطها وتركيبها من جديد. في أي مرحلة من مراحل الوعي يُصنّف الإعلام في زمن الحرب؟ وما هو ذلك الصوت من الحقائق الذي يتدفّق على صور أخبار وحوادث متلاحقة في أمكنة وأزمنة متصلة ومنفصلة في آن؟ وكيف يستطيع الإنسان تبيّن الحوادث في برهان ثباتها أو في حالة حركتها، ثم ما هو ذلك النوع من الإدراك المرتبط أصلاً بموضوع الصوت والصورة وحركتهما في كل ما ندعوه بالرؤيا والمشاهدة، ليس للمشهد الحي لكن للمشهد المصوّر والمسجّل والمرئي والمسموع بواسطة فعل آخر يبعد الصورة عن ذلك الإدراك المباشر المكتسب من العلاقة المباشرة بين العالم الخارجي والحواس. إنّ صورة الحرب هي الوجه المصقول في مرآة المتحاربين، وليست الحرب الحقيقة التي تدور رحاها في الميدان، وعليه يكون ما يحصل مثلاً من مجازر في غزة وإبادة جماعية ودمار وخراب هو أقوى وأشد في الواقع مما نشهده في صورة هذا الواقع. ومع ذلك يبقى إعلام الحرب جزءاً أساسياً من الحرب نفسها.
يقول البير كامو إنّ «الصحافة هي تاريخ اللحظة»، أي إنّها تقوم على محاولة تقطيع الزمان في سيلان إلى هنيهات أو لحظات يوقف بها الوقائع والأحداث. تتسارع الأحداث والوقائع في زمن الحرب، ويتحول تراكمها الكميّ إلى تغيير كيفيّ بوتيرة عالية. إنّ الحرب تصيب الحياة الإنسانية بحرارة زائدة وحساسية عالية لأنّ للحرب قوانينها الخاصة ووقتها الخاص، وعيش هذا الوقت يختلف عن عيش سواه. إنّ زمن الحرب زمن مختلف، وإعلام الحرب الذي يؤرّخ للحظات هذا الزمان إعلام مختلف هو أيضاً. ما هو المنهج الذي يتبعه إعلام الحرب؟ هل هو قادر على إيصال رسالته الإعلامية إلى الناس؟
من الصعب كما ذكرت إيقاف التاريخ في لحظاته، ولكن إعلام الحرب يحاول ذلك. هو يسعى إلى إيقاف التاريخ في لحظاته من أجل وصفها والشرح والتعليق والتحليل والإيجاز والتلخيص والعرض والتصوير والإحاطة بالحدث ووقائعه بعد إشغال مناهج الخطاب الإعلامي وغاياته عليه.
ما هي مناهج الخطاب الإعلامي وقواعده الفلسفية في الحرب العدوانية على غزة؟
في علاقة العمل الإعلامي بالحدث الفلسطيني ثمة موقف يشبه الأسلوب اللغوي المعروف بالسهل الممتنع وترجمته: إنّ قضية فلسطين في موازين الحقّ قضيّةٌ عادلةٌ لم يشهد التاريخ المعاصر بين قرنين قضيةً أكثر عدالةً منها، والاحتلال الصهيوني الاستيطاني لفلسطين وطرد سكانها وسرقة هويّتها وتزوير تاريخها وتغيير أسماء مدنها والاعتداء على مقدّساتها وتهديد محيطها العربي والإسلامي وشنّ حروب عدوانية موسمية عليه واحتلال أراضٍ أخرى... كلّها جعلت من قضية فلسطين قضيّة العرب والمسلمين الأولى، وجوهر الصراع في الشرق العربي وفي العالم. فلسطين هي قلب الصراع في العالم المعاصر. قضية عادلة ولكنّها تمثّل هذا الجوهر، ومن هنا بساطة الدفاع عنها في الإعلام وصعوبة الأمر نظراً إلى تعدّد وسائل الأعداء وإمكاناتهم في التضليل والتحريف والتزوير وكيّ الوعي وصناعة انتصار للباطل والعدوان بواسطة الآلة الإعلامية وإمكاناتها. هذه الصورة الإعلامية التي تمظهرت بقوة في حرب غزة تبدو سهلة وبسيطة بقدر ما هي حقيقة واقعية، والإعلام المتحصّل بالفطرة الإنسانية لا يمكنه سوى الإقرار بهذه الحقيقة الواقعية المتّصلة بالحق الفلسطيني والباطل الصهيوني، ولكنّه يصبح صعباً وسدّاً يحجب صدق الفطرة في الإعلام الغربي الأوروبي والأميركي المركّب الذي يملك إمكانات هائلةً تمكّنه من حجب الفطرة والحق والعدالة وحجب الحقيقة واعتبار الإبادة الجماعية في غزّة مجرد عملية عسكرية دفاعية في مواجهة حركات إرهابية. هكذا تنقلب الحقائق ويوضع سدّ في وجه الفطرة والعقل الإنسانيّين، وكيّ وعي هذا العقل في الإعلام يتمثّل في التضليل والكلمة الخبيثة مقابل الكلمة الطيبة. من يقترب من النار عليه أن يتدفّأ، أمّا إذا شاء أن يلعب بها على هواه، فقد يحرق أصابعه. ذلك هو مصير الإعلام المضلّل في مقاربة قضية فلسطين. الخطاب الإعلامي المتعلّق بفلسطين يجب أن يتسلّح بعدالة قضيتها، وتكون له الحجة والقدرة والشجاعة على قول الحقيقة. إنّ الخطاب الإعلامي حول فلسطين يلزمه إعلاميون من النوع الذي يغلب موازين العدالة والحقيقة المرتبطة بالحق، ويكون مرتكزاً على العلم والهدى والبيان والتبيين وأن يكون قوياً ليصل إلى الناس وأن يحذّر من الإعلام المضلّ ليحذَره كل عاقل.
هل يمكن الإفادة من وسائل الإعلام المعاصرة لإيصال خطاب الحقيقة والحق؟ لا أحد ينكر ذلك، وعليه يمكن استخدام كل تقنيات الإعلام المعاصر المكتوب والمسموع والمرئي ووسائل التواصل لإيصال الحقيقة الحقّة لتؤثّر في تعيين المواقف وتشكيل الرأي العام.
لقد جاء على لسان هنري الرابع في مسرحية «شكسبير» إنّ الرأي هو الذي أوصله إلى العرش. إنّ الإعلام هو القادر على صناعة الرأي العام والتأثير في صناعة القرار، وهذا ما حدث في تطوّرات حرب غزّة والمسألة تتطلب بحثاً مستفيضاً.
إنّ وسائل الإعلام المعاصرة تملك سلطة التأثير في العقل البشري، والسؤال المحيّر المطروح هو ما إذا كانت هذه السلطة مستخدمة في تنوير العقل البشري أم في تشويشه، في إنماء التعارف بين الشعوب أم في إذكاء نار الحروب. في حرب العراق الأولى عام 1991، كانت محطة التلفزيون الأميركية CNN تحتكر الإعلام والأخبار عن الحرب، وقد حوّلت صور الحرب إلى مشهد تقنيّ يشبه صور ألعاب الفيديو أو الكمبيوتر حتى تطمس صورة الجرائم المرتكَبة في الحرب.
لقد تطوّر الخطاب الإعلامي في الحرب بين مرحلة سيطرة الـ cnn ووكالات الأنباء الأميركية والأوروبية، وفرض مرافقة الصحافيين للجيوش وتلقّي التعليمات من هيئة الإعلام الحربي للجيش الأميركي في الحرب على العراق على سبيل المثال. كل معلومة وكل صورة يجب أن تخضع للرقابة العسكرية. ورغم أنّ العدو الصهيوني لا يزال يمارس الطريقة نفسها في إعلامه الحربي ويمنع وصول المعلومات ويفرض رقابة عسكرية شديدة عليها، لكن ذلك لم يمنع بعض الصحافة العبرية من الإفلات من الرقابة الصارمة نسبياً كما حصل في فضح قتل طائرات الأباتشي للحفلة الموسيقية السنوية في غلاف غزة، وكذلك في فضح الخلافات العميقة داخل كبينة حرب العدو وحكومته اليمينية المتطرّفة والكراهية المتزايدة للطاقم الوزاري ورئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو. وفي حرب غزة عمد العدو إلى قتل الصحافيين في غزة وفي جنوب لبنان لإبعاد صورة الإبادة الجماعية وقتل الأطفال والنساء عن الناس. لكنّ صورة الحرب وصلت بجهاد الإعلام الشجاع وصنعت قوة متعاظمة في الرأي العام العالمي ودفعت العدو إلى قبول الهدنة وإلى التفاوض على الأسرى.
في حرب غزة، تابعت حركة الإعلام على شاشات التلفزيون وفي الصحافة اليومية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي وحتى استعدت سماع الراديو وحضرت مجموعة كبيرة من الفيديوات. تيقّنت أنّ الإعلام الحربي جزء من الحرب نفسها. لقد وجدت الوسائل الإعلامية صعوبات عدة من قطّاع طرق الإعلام الذين قطعوا الاتصالات والكهرباء وشبكات الإنترنت. لكنّ الإعلاميين الغزاويين اخترقوا الحصار وأوصلوا بطرق عدة صورة ما يحدث من وقائع الحرب في غزة ودفعوا ثمن ذلك من دمائهم ودماء أسرهم. سقطوا شهداء شاهدين في الدفاع عن الحقيقة المتصلة بالحق عن غزة وفلسطين وحقوق الإعلام الحرّ مثل الهدهد يأتيهم بالخبر اليقين.
تطورت وسائل الإعلام بشكل متسارع وظهر دور بالغ لوسائل التواصل الاجتماعي وتأثيره في صناعة الرأي العام الشعبي وفي إيصال المعلومات من دون حواجز رقابية فعّالة. ولعبت الصورة دوراً بارزاً في كشف جرائم الحرب العدوانية، ما حرّك موجات متتابعة ومتصاعدة في حركة الرأي العام الدولي عبّر عنه في التظاهرات الجماهيرية في العواصم الدولية الكبرى، خصوصاً في أوروبا وفي أميركا اللاتينية، حتى في الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
لم تكن أجهزة المنع قادرة على إيقاف حركات التضامن مع غزة والمطالبة بإيقاف حرب الإبادة البشرية وقتل الأطفال والنساء وتدمير المدن. وقد شكّلت هذه التظاهرات ضغطاً واضحاً على الحكومات التي ذهبت بعيداً في دعم العدو الصهيوني. ثم بدأت في إعادة الحساب نتيجة فعالية الإعلام وأثره في الرأي العام العالمي.
تلعب الساحة الإعلامية في لبنان دوراً أساسياً في الخطاب الإعلامي لنصرة غزّة وفلسطين


تلعب الساحة الإعلامية في لبنان دوراً أساسياً في الخطاب الإعلامي لنصرة غزة وفلسطين. يتضح ذلك عبر دور الصحافة المكتوبة وفي مقدّمتها جريدة «الأخبار» الغرّاء من دون أن نبخس الصحف الأخرى حقّها مثل «الديار» و«البناء» و«اللواء». لكن بعض الصحافة الأخرى لا تزال تلعب على حافة الحياد في الحرب، وتقدّم مرّات سردية العدو على سواها للأسف الشديد.
القنوات التلفزيونية بوجود «المنار» و«الميادين» و«المسيرة» و«العالم» و«الجديد» وغيرها تفتح متابعة مباشرة وشبه دائمة. مواقع التواصل الاجتماعي أكثر نشاطاً وهي في مقدمة الإعلام المقاوم، وكذلك الأنشطة الإعلامية والندوات والمؤتمرات الصحافية، والدور الذي يُعطى للقيادات الفلسطينية في الحركة الإعلامية بما فيه الإعلام العسكري، ونقل الصور الحية ودور المراسلين والمصورين الشجعان من الميدان. ويتميز الإعلام الحربي لـ «حزب الله» والوحدة الإعلامية المركزية والجيش الإلكتروني بدور بارز في حركة الإعلام المقاوم الداعم لنصرة غزة ومواجهة إعلام العدو في الحرب الإعلامية في أعلى صورها وأشكالها المعاصرة.
مع أولى عمليات «طوفان الأقصى»، قامت وسائل إعلام غربية تروّج لأكاذيب العدو، وكلّها افتُضحت لاحقاً من قصة ما حدث في احتفال غلاف غزة إلى كذبة العصر في وجود مقرّات عسكرية تحت «مستشفى الشفاء»، ومن قبلها فضيحة مجزرة «مستشفى المعمداني».
الإعلام العربي مقسوم في التقييم بين «الجزيرة» و«العربية» مع فارق، وبين «المنار» و«الميادين» و«السورية» و«المسيرة» و«العالم»، وبقية القنوات اللبنانية تستحقّ قراءة متأنية، وكذلك الصحافة اليومية ووسائل التواصل الاجتماعي... إنّها مواد مهمّة لدراسات طلّاب الإعلام في العامل العربي.
ثمة نجمة مميزة في هذا الإعلام هي الإعلام الحربي، وهنا ذكرت الإعلام الحربي لأنه جزء من الحرب نفسها، وقد تطوّر هذا الإعلام واكتسب خبرات وتقنيات عالية، وقدم نموذجاً رائعاً في هذه الحرب. وحسن الختام في هذا الخطاب التحية لأرواح الشهداء من الإعلاميين الشهود على الحرب وشهدائها في أعلى عليّين. إنّ ميدان الإعلام صورة مرافقة ناطقة لميدان الحرب. إنّه لسان الحرب وترجيعها.

* كاتب ووزير سابق



عدّاد شهداء الصحافة يرتفع
لم يتوقّف نزيف الصحافة منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. بل يرتفع عدّاد شهداء الصحافة يوماً بعد يوم، ووصل إلى قرابة 73 صحافياً استُشهدوا في غزة. وتحوّل الصحافيون (مراسلون، مصوّرون...) وعائلاتهم إلى أهداف للعدو، بعد كشفهم جرائمه التي يرتكبها بحق آلاف الفلسطينيين من الأطفال والنساء. في لبنان استُشهد ثلاثة صحافيين هم عصام عبدالله المصوّر في وكالة «رويترز» (الأخبار 16/10/2023) أثناء قيامه بواجبه في منطقة علما الشعب (جنوب لبنان). كذلك استُشهدت فرح عمر مراسلة قناة «الميادين» وزميلها المصوّر ربيع معماري (الأخبار 22/11/2023) بصاروخ أطلقه العدو الإسرائيلي أثناء تواجدهما في منطقة طيرحرفا (جنوب لبنان)، إلى جانب إصابة عدد من الصحافيين أثناء قيامهم بأعمالهم.
في هذا السياق، أعلن مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة، ارتفاع عدد الشهداء في غزة إلى 73 شهيداً، ليُضافوا إلى أكثر من 15 ألف شهيد ارتقوا قبل إعلان اتفاق الهدنة الإنسانية. ولفت الثوابتة في مؤتمر صحافي عقده من «مستشفى شهداء الأقصى»، إلى أنّ عدد الشهداء الصحافيين في غزة ارتفع بعد استشهاد ثلاثة يوم الجمعة الماضي. وأضاف أن «6150 طفلاً من بين الشهداء الذين سقطوا في القصف الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول الماضي، ومن بين الشهداء أكثر من 4 آلاف امرأة».
يُذكر أنّ عائلات الصحافيين في غزة كانت تحت مرمى صواريخ العدو الإسرائيلي، وأبرزهم وائل الدحدوح مراسل قناة «الجزيرة» الذي فقد عدداً من أفراد عائلته في مجزرة مروّعة (27/10/2023).