ليس مفاجئاً ولا مستغرباً أن تنادي غزّة المذبوحة وجدان ضياء العزاوي (مواليد بغداد ــــ 1939) وريشته. دائماً ما كان التشكيلي العراقي ملتزماً بالقضية الفلسطينية في مسيرته الفنية، منذ البدايات، وتحديداً منذ هزيمة الـ 67 وتأسيسه مع رفاق من جيله «جماعة الرؤية الجديدة» التي كان هاجسها اللحاق بركب المحترفات المعاصرة. لعلّ إقامة العزاوي في لندن منذ منتصف السبعينيات من القرن الفائت، صقلت تجربته وشكّلت وعيه الفني. هناك تمرّس بأسلوب الطباعة (gravure) والنحت والجداريات، مواكباً في مضمون أعماله تطوّرات الواقع العربي والمأساة الفلسطينية المستمرّة، وصولاً إلى مجازر صبرا وشاتيلا الرهيبة التي جسّدها في جدارية ضخمة بعرض سبعة أمتار، وضمّتها «تيت غاليري» في لندن إلى مجموعتها الفنية المهمّة لأبرز فناني العالم. عبر موقع إنستغرام، يستبق العزاوي اليوم معرضاً خاصاً بمأساة غزة سوف يُقام السنة المقبلة في «غاليري صالح بركات»، كاشفاً عن عدد من لوحاته التي سيضمّها هذا المعرض مع أعمال أخرى، ما أتاح الاطلاع عليها واكتشاف الأساليب والأدوات المتنوعة التي أُنجزت بها بين سيريغرافيا وليتوغرافيا وحبر وفحم وأكريليك ومائيات. بعضها بالألوان، والبعض الآخر بالأبيض والأسود تبعاً للحاجة التعبيرية.

ضياء العزاوي ـ «ليلة الإبادة في غزة: 20 تشرين الأول 2023» (فحم وقلم ملوّن على ورق ــــ 80 × 100 سنتم)


ضياء العزاوي ـ «ليلة الإبادة في غزة: 21 تشرين الأول 2023» (فحم وقلم ملون على ورق ـ 80 × 100 سنتم)

مذ استقرّ في لندن، كرّس العزاوي ديناميّة محترفه التعدّدي لاختبار مختلف تقنيات التعبير الملتزم، مسخّراً وسائطه لمناخ «الحِداد» الغرافيكي المغرق في مشتقات الأسود والرماديّ وتدرّجاتهما وتضادّاتهما. فهو لا يستدعي خيالاً، بل يجسّد حدثاً واقعياً مثقلاً بالمآسي والخسائر والانكسارات. تعبيره التشكيلي صادم، جارح، شخوصه مشدوخة في الزمن الأليم. يرسم المظالم والمجازر بتعاطف صادق مع الضحايا وحرارة إنسانيّة تنبعث منها صرخة احتجاج.
قبل أن يسلك ضياء العزاوي خطّ الالتزام الفني بالقضايا العربية، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، تأثّر عقب تخرّجه من كلية الآداب (قسم الآثار) عام 1962 ثم من معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1964 بالفن السومريّ ومنحوتات الأجساد الأنبوبية والأعين الواسعة الجوفاء وسط الوجه، فاستمرّ هذا الشكل ماثلاً في أعماله. أمّا لوحاته الأولى، فاستمدّها من الأضرحة والأساطير والنقوش، وكذلك من الطقوس الحسينية الكربلائيّة التي استلهم منها شخصية الشهيد المواجه للظلم، والمولّدة بالتالي للمأساة التي تطبع عالمه التشكيليّ. إنّه الشعور المأساوي الذي يرافق أعمال ضياء العزاوي مثلما ترافقها قصائد مظفّر النوّاب ومحمود درويش. أمّا مانيفستو «جماعة الرؤية الجديدة» عام 1969، فوقّعه معه خمسة فنانين هم رافع الناصري، ومحمد مهد الدين، وإسماعيل فتاح، وهاشم سمرجي وصالح الجميعي، وكان جزءاً من ردود الفعل الثقافية واسعة النطاق على الهزيمة العربية في حرب الأيام الستة مع إسرائيل عام 1967. بذلك ارتسمت خطوط علاقة جديدة للفن مع العوامل السياسية، فكان «بينالي الفن العربي الثاني» في الرباط حول القضية الفلسطينية (1976)، و«معرض بغداد العالمي للملصقات» (1979)، و«بينالي العالم الثالث لفن الغرافيك» (1980) بمبادرات متتالية من ضياء العزاوي فكرةً وتنظيماً. مع تنامي حركة التحرير الفلسطينية في أعقاب هزيمة 67 ، بدأت أعمال العزاوي تتناول الحدث السياسيّ على نحو أكثر مباشرة، مستنداً على سبيل المثال إلى يوميات فدائيّ كتبها أثناء حصار مخيم جبل الحسين للاجئين في عمّان عام 1970، أو قصص غسان كنفاني القصيرة التي تصف الحياة الفلسطينية بلا وطن. أنجز العزاوي مجموعتَي رسوم من وحي تلك النصوص: الأولى تحت عنوان «شاهد من هذا العصر: يوميات فدائي قُتل في مجزرة 1970 الأردنية» (1972)، والثانية «رسومات لأرض البرتقال الحزين» (1973).

ضياء العزاوي ـ «ليلة الإبادة في غزة: 23 تشرين الأول 2023» (فحم وألوان الباستيل على ورق ــــ 80 × 100 سنتم)


ضياء العزاوي ـ «ليلة الإبادة في غزة: 26 تشرين الأول 2023» (فحم وألوان الباستيل على ورق ــــ 80 × 100 سنتم)


ضياء العزاوي ـ «ليلة الإبادة في غزة: 29 تشرين الأول 2023» (فحم وألوان الباستيل على ورق ــــ 80 × 100 سنتم)

في عام 1975، غادر العزّاوي العراق للمرة الأولى للمشاركة في محترف صيفيّ لأعمال الحفر في سالزبورغ في النمسا. هناك أدرك أهمية توسيع المجال الفني وآفاقه، فانتقل في العام التالي إلى لندن حيث عزّز معرفته في مجال فن الحفر وطوّر ما يسمّيه «القصيدة المرسومة» كامتداد بصريّ للبُعد اللغويّ، فأنجز هذا الشكل من القصائد البصرية بدءاً بـ «المعلقات السبع»، بلوغاً إلى قصائد محمود درويش ويوسف الصايغ المكتوبة في أعقاب مجزرة تل الزعتر، ومن ثمّ مجازر صبرا وشاتيلا من وحي نصّ جان جينيه «أربع ساعات في شاتيلا».
ثمة حاجة إلى الأشكال والشعارات التحريضية لمواجهة ما يشيعه العدو لبث روح الهزيمة


بعد مرحلة الالتزام الأولى منذ مطلع الثمانينيات، دخلت عناصر جديدة على لوحة ضياء العزاوي، منها سيطرة الألوان الزيتية والأكريليك، وأشكال الحروفية العربية التي سرعان ما تخلّى الفنان العراقي عنها بسبب اجتذابها الطامعين في سوق الفن، واندماج النحت بالرسم، والعودة إلى ملحمة جلجامش و«ألف ليلة وليلة» إنّما حفراً لا لوحةً يسودها الغموض مثلما كانت في الستينيات. وفي أواخر الثمانينيّات، باشر ما دعاه بـ «الدفاتر»، أي تلك الكتب الفنية التي سعى العزاوي فيها إلى خلق أشكال بصرية مستلهمة من كبار الشعراء العرب، من المتنبي إلى الجواهري وأدونيس، وأنتج من تلك الدفاتر ما يزيد على الأربعين، استناداً إلى فكرة أن الشعر يقرأ أكثر ممّا يسمع، على الأقل في عصرنا الراهن، وأنه يمتلك عنصراً بصريّاً أساسياً. شدّدت الدفاتر على تحويل العلاقة بين كلمات القصيدة ومساحة الصفحة. هذا التحويل أفضى إلى استخدام اللون كمساحة تحمل القصيدة بعيداً من واقعها اللغوي إلى سياق الحياة اليومية. وعدا الدفاتر، توسّل الفنان العراقي الأدب لرسم لوحاته طوال عقد التسعينيات. وفي أعقاب الغزو الأميركي للعراق واحتلاله عام 2003، تحوّلت أعماله إلى تأملات حول الوطن الذي غادره قبل عقود، منجزاً لوحات ومنحوتات كبيرة الحجم. تولى العزاوي منصب مدير مديرية الآثار العراقية في بغداد بين عامَي 1968 و 1976، وكان مديراً فنياً للمركز الثقافي العراقي في لندن بين عامَي 1977 و1980، فنظّم في العاصمة البريطانية العديد من المعارض. كما أشرف على مجلة «أور» ومجلة «فنون عربية»، وكان عضواً في هيئة تحرير مجلة «مواقف». حوارنا معه اليوم يتركّز بشكل أساسي على محرقة غزّة التي حرّضته على حسابه على إنستغرام، مؤرّخاً ليوميات الإبادة المستمرّة منذ أكثر من شهرين:


أوحت لكَ مأساة غزة تعبيراً متعدّد الرؤى والأدوات. ما سبب هذا التنوّع في الأساليب والموادّ المستخدمة في لوحاتك؟
- ثمة ارتباط بين الموضوع والأسلوب يهب مساحة أكبر للانفعال الشكليّ والروحي في الوقت نفسه. ما أنجزته كيوميّات للتدمير الممنهج وروح الانتقام السوداء لجأت فيه إلى الفحم ذي الأحجام المختلفة، فامتلكت حرية تعبير مباشر عن مشاعري أثناء متابعتي الأخبار ووسائل التواصل وقنوات البث المباشر العربية والعالمية. نحن نعيش في زمن مذهل. لا يمكن حجب ما يحصل. الكلّ مكشوف بالتفصيل، وقد أدّى ذلك إلى تعاطف كبير في زوايا من العالم لم تكن في الحسبان مثل نيويورك وشيكاغو وملبورن. إنّ تنوع الأسلوب والمادة لديّ، هو انعكاس لقدرة التحدي والفضاء الروحي الجديد الذي ينعش ذاكرة الفنان. إلى جانب الفحم، استخدمت فن الملصق كأداة تحريضية وسياسية توثّق الحدث وتخاطب العالم. فن الملصق من الأكثر ملاءمة في الفترة الراهنة نظراً إلى قدرته على الانتشار والتفاعل مع الشعار السياسي.

كأنّك لجأتَ إلى التكعيبية في بعض أعمالك عن غزة؟
اعتمدت في لوحاتي الاثنتَي عشرة عن غزة تصوّرات أولية واختزالات للجسد مع تداخل لطائر خرافيّ يرمز إلى القصف العشوائي. العلاقة بالتكعيبية هي في الموضوع فقط، وهذه العلاقة هي التي تعمّق الشعور بوحدة المواجهة اللاإنسانية التي فُرضت على سكان غزة، وخصوصاً أولئك الذين دُمّرت بيوتهم فوق رؤوسهم من دون أن يكونوا طرفاً في المعركة.

ما الذي يُملي عليك كفنان اعتماد الألوان حيناً والأسود والأبيض حيناً آخر؟
للألوان سحر وطاقة إغواء لا يمكن مقاومتهما. اضطررت أحياناً لترك الألوان جانباً وخلق أشكال ووحدات قادرة على الاكتفاء بذاتها تعبيريّاً، لا لتكثيف الرسالة فقط، بل لإنشاء علاقة تفاعلية مع المطّلعين على أعمالي السابقة ذات الألوان البهيجة. الأسلوب المتقشّف لوناً اعتمدته منذ تدمير العراق الذي كان بلد السواد بالمعنى التراجيديّ.

أيّ تأثير ترى للوحة وللفن عامةً في أزمنة الحروب؟ هل يقتصر الأمر على مجرّد الرغبة في التعبير أم يتعدّى ذلك؟
إنّ فنّي الملصق والفيديو هما الأكثر فاعلية في المواجهة الحالية. ليس هناك وقت للتأمل. ثمة حاجة إلى الأشكال والشعارات التحريضية لمواجهة ما يشيعه العدو لبثّ روح الهزيمة.

هل ستعلّق لوحاتك عن مأساة غزة في معرض قريب؟
آمل أن يحصل ذلك في المعرض الذي تنظمه «غاليري صالح بركات» الذي تأجّل للسنة الجديدة بسبب الأوضاع الراهنة.