خلال أكثر من شهر ونصف شهر من حرب الإبادة الجماعية على شعبنا في القطاع، تمترس الخطاب الأوروبي الرسمي عند موقف محدّد وقطعي لم يتزحزح عنه، وهو ما تجسّد في المعلن كتصريحات، ولقاءات داعمة مع أركان الحرب الصهاينة: لا لوقف إطلاق النار، من حق «إسرائيل» الدفاع عن نفسها، طبعاً مع العديد من التوصيفات التي تشيطن «حماس» والمقاومة وشعبنا، وتجرّم اجتياح المواقع والمستوطنات في 7 أكتوبر بأسوأ العبارات، وتبني الرواية الصهيونية ببغاوية لافتة، رغم تهافت تلك الرواية وسرعان افتضاحها. ومع ذلك، لم يشهد هذا الخطاب أيّ تغيرات طوال أكثر من شهر ونصف شهر، فكان ملكياً أكثر من الملك ذاته. كان الإمبرياليون الأوروبيون والأميركيون ومعهم الصهاينة بالتأكيد، يمنّون النفس بتوجيه ضربة تقضي على «حماس» والمقاومة تماماً، وتعيد ترتيب الوضع السياسي والأمني للقطاع بما يتضمّن تهجيراً واسعاً يُمهّد له بمجازر وتطهير وإبادة عشرات الآلاف. وضعوا سقف أهداف عالية، كما جرت العادة في عدوانات سابقة، وكما جرت العادة أيضاً لم يحقّقوا أياً منها، لا في العدوانات السابقة ولا في العدوان الحالي. صمود المقاومة وإيقاعها الخسائر الجدية في جيش الصهاينة، ورفض شعبنا للتهجير، رغم كل المجازر والتدمير وانعدام سبل الحياة، بحيث إن شمال غزة لا يزال يقيم فيه 800 ألف غزي رفضوا التهجير، كل ذلك دفع بالأوروبيين والأميركيين لمعاودة حساباتهم من جديد، والتفكير بتغيير طفيف في لهجة الخطاب.
أمّا ما ساعد على تلك المعاودة للحسابات، فهو ذلك التغيير الجذري في الرأي العام العالمي الشعبي، والمعبّر عنه بمئات آلاف المتظاهرين في عواصم العالم، وخاصة الغربية، ليس فقط رفضاً للإبادة الصهيونية الجماعية، بل وتأييداً للحق في المقاومة. أبعد من ذلك: لم تعد لهجة التنديد (بالانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي)، تلك اللهجة ذات الصبغة القانونية الملطِّفة للسلوك الصهيوني، هي السائدة، بل أصبحت لهجة التنديد بالإبادة الجماعية والمطالبة بوقفها، وكذا اعتبار ما يجري في شمال القطاع، تطهيراً عرقياً، كما انهارت صيغتان صهيونيتان في روايتهم: «اعتبار حماس داعش»، وكذا اعتبار ما يجري حرباً بين «حماس» و«إسرائيل». لقد وعى الرأي العام الشعبي الغربي لذلك الفخ الذي نصبته ماكينة الدعاية الصهيونية والأوروبية والأميركية المتصهينة، فلم يعد ينطلي عليه الربط بين «داعش» و«حماس»، بل غدا أسطوانة مشروخة لا يكررها حتى مَنْ أنتجها، وغدا ما يجري حرب إبادة ضد شعب لتهجيره من وطنه، وليس حرباً بين «حماس» و«إسرائيل». والأهم أن أصواتاً تتعالى باتت تتحدث عن فلسطين التاريخية، حيث تجلّى هذا في شعار «من البحر إلى النهر» في لافتات المتظاهرين، وعلى مواقع التواصل، كما بدا التفهم يزداد أكثر فأكثر للمقاومة المسلّحة في فلسطين باعتبارها حقاً مشروعاً وطبيعياً.
منذ اليوم الأول، يوم 7 أكتوبر، بات واضحاً أن انهيار كيان الصهاينة، الذي تبجّح كثيراً في قوة جيشه واستخباراته وتكنولوجيته العسكرية والتجسّسية، احتمال واقعي ومنطقي، فهو فعلاً كما قال السيد حسن نصرالله مرة «أوهن من بيت العنكبوت»، لذلك سارع الزعماء الإمبرياليون في العالم لزيارته والتضامن معه، لا بل المشاركة في اجتماعات مجلسه الحربي لعدم الثقة في جنرالاته المهزومين وسياسيّيه الفاقدي القدرة على القرار في لحظة توتر المهزوم، وكذا توفير الدعم اللوجيستي والخبرات والقوات الخاصة.
لم يصل، ولن يصل، هذا التغيير، إلى حدّ اتخاذ خطوات فعلية تلجم الانفلات الصهيوني في حرب إبادته لشعبنا


ولكن لمّا لم يتمكن الصهاينة عسكرياً من تحقيق أيّ أهداف، لا بل تكبّدوا خسائر مهولة، وفتحوا على أنفسهم طاقة جهنم جديدة مع حزب الله والمقاومة العراقية واليمنية باشتراكهم الفعلي بالنار في المعركة، كان يجب معاودة النظر في الخطاب.
ضمن هذا السياق يمكن فهم تصريح ذاك العنصري الأبيض النموذجي جوزيف بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، حول أن «حماس» تجاوزت «حد الدفاع عن النفس»، وكان كاميرون سبقه بتصريح يحمل المحتوى ذاته، فيما بدأ كثيرون من الساسة الأوروبيين والأميركيين يتحدّثون عن ضرورة «مراعاة إسرائيل لأحكام القانون الدولي في حربها ضد حماس» والامتناع عن المسّ بالمدنيين.
لكنهم لم يتخذوا إجراءً واحداً لأن «إسرائيل تجاوزت»، فهذا لم يحصل ولن يحصل، تماماً مثلما هو الموقف الأميركي والأوروبي الكلاسيكي ضد الاستيطان في الضفة الغربية، تماماً مثل الحديث الأوروبي الرسمي طوال عقود عن «الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني»، لم تُترجم تلك التصريحات بقرارات سياسية رادعة من نوع سحب السفراء، أو وقف الدعم العسكري، أو تجميد العلاقات التجارية، أو قطع العلاقات، ما يؤشر إلى حقيقة أن التصريحات هذه لا تعدو كونها تصريحات للاستهلاك الإعلامي لا أكثر ولا أقل.
على جبهة الصهاينة، تأكّدت الحقائق: هزائم عسكرية متلاحقة منذ 7 أكتوبر، افتضاح الرواية على مستوى شعبي عالمي، عدم تحقيق أيّ من الأهداف المعلنة، أزمة اقتصادية بدأت بالتفاعل وتمثّلت في سحب عشرات آلاف جنود الاحتياط من جبهة القتال. يمكن الجزم بلا تردّد، أن سياسيّي الكيان الصهيوني وأجهزته ومؤسساته على اختلاف تلاوينها، وامتداداته العالمية من مؤسسات وجمعيات واتحادت مؤطّرة في لوبيات ضغط، لم يتخيّلوا، حتى في أسوأ أحلامهم، أياماً أكثر سوداوية من الأيام التي يعيشونها منذ 7 أكتوبر حتى اليوم.
كل ذلك يفسّر السعي الأميركي والأوروبي لإنقاذ الكيان الذي لا تتوقف مكانته عن الانهار داخلياً وخارجياً. في هذا السياق يمكن فهم التركيز على الدعوة إلى «هدن إنسانية» دون وقف نهائي لإطلاق النار، لامتصاص الغضب الشعبي العالمي على الوضع الإنساني المأساوي في القطاع، ما يلحق الضرر البالغ بمكانة وسمعة الكيان العالمية، وكذلك يشكّل ضغطاً على سياسة الحكومات الإمبريالية. وفي سياق السعي نفسه، تراجعت بعض الشيء الإجراءات الفاشية لمنع التضامن مع فلسطين والمقاومة، والتي أعلنت أول أيام العدوان في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، فحتى ألمانيا، الغارقة كنظام وقطاعات واسعة من الشعب، في نازية جديدة عدائية تجاه شعبنا، غزتها تظاهرات التأييد لشعبنا ولجمت يد الحكومة، فيما «طارت» وزيرة الداخلية البريطانية التي حاولت لجم أيّ فعاليات جماهيرية في الشارع تسيء إلى مشاعر مؤيّدي إسرائيل! أمّا بلد «الحرية والعدالة والمساواة» بنستختها البرجوازية الكلاسيكية فلم تنفع خراطيم المياه ولا الاعتقالات بمنع مئات الآلاف من التظاهر.
تحرّك الإمبرياليون فغيّروا بعض الشيء من خطابهم المعلن طوال أكثر من شهر ونصف شهر، ولكن لم يصل، ولن يصل، هذا التغيير، إلى حدّ اتخاذ خطوات فعلية تلجم الانفلات الصهيوني في حرب إبادته لشعبنا، فما زالت مقولتا «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» و«لا لوقف نهائي لإطلاق النار» تؤطّران الموقف الرسمي بتأييد الإبادة الجماعية، وفق منطق عنصري أوروبي أبيض يجد من واجبه دعم وليده الأبيض في فلسطين.
ليست تلك زلّة لسان التي وقع فيها رئيس الوزراء السويدي عندما قال: «السويد والاتحاد الأوروبي متفقان على حق إسرائيل في الإبادة الجماعية»، ليسارع لتعديلها أمام غضب وصياح الصحافيين «أعني الحق في الدفاع عن النفس». ليست تلك نهائياً زلّة لسان بل حقيقة الرجل الأبيض المستعمِر.

* كاتب فلسطيني وأسير سابق