يتساقط الأطفال كالعصافير، والحبّ صامتاً يرزح تحت طبقات الإسمنت. متروك هذا الشعب، متروك ومشرّد. متروك هو إلّا من نفسه ومن الأحرار، ومزروعٌ هو، مزروعٌ في الشجاعة والأرض، ومزروعٌ في تربة التمسّك بحمد الله الذي يستمدّ منه الفقير قوّة ليقف في وجه العتاة. لا وجه لهذا الوحش القادم من الجحيم، وحشٌ يأكل الإنسانيّة ليتقيّأ جنوداً، وأسلحةً، و«إخوةً» يتحلّقون بكلمات شاحبة حول تلال الجثث ويغسلون أيديهم من الدم المسفوك على أرض فلسطين وفي زنازينها.
تآمروا عليكما يا أخي وأختي. تآمر المتلهّفون للمال على البراءة. تآمروا على الله الساكن في البراءة. تآمر الذين أذلّوا أنفسهم للوحش. تآمروا عليكما.
تآمروا على الجسد الذي يريد أن يحيا لأنّه يرفض أن يعود إلى اللاشيء بعدما الله أخرجه من اللاشيء إلى الوجود. تآمروا على الحرّية التي تشتدّ وتراً يرمي شوق الإنسان نحو الكرامة. تآمروا على العيون التي تطلق ضحكاتُها العصافيرَ في جوّ المكان المتقشّف، فتتلوّن الحياة بالبهجة والفرح. تآمروا على عرق الجبين الذي يخرج من الصباح إلى المساء كي تضمّ العصافير الطعام في فمها، ويضمّها هو إلى قلبه بابتسامة رضى. تآمروا على الصوت الأموميّ الذي يلاحق الأطفال كي لا يتأذّوا. تآمروا على التفاتات الطفل إلى أمّه إذا ركض بعيداً عنها. تآمروا على الأصابع التي تلعب بأصابع الأمّهات كي تجد الراحة وتلمح وجه الله خلفها.
تكتبان على ذراعيكما أسماءكما. «لعبةٌ جديدة»، تقول والدتكما وهي تبكي بعد أن تناما وتسلّمكما للرحمة الإلهية. تغمض عينيها وهي لا تعرف ما تتمنّى: أتتمنّى أن تراكما معها إن فتحت عيونها على الأبديّة، أم لا؟ يُعجزها السؤال الذي يصمت أمامه كلّ فكرٍ؛ لا تعرف ماذا تتمنّى فتغمض عينيها وتسلّم عجزها إلى الرحمن. تهرب المسؤوليّةُ بنوم والدكما حتّى يسرق التعبُ سهرَه، فيشرق فيه النوم الذي هرب.
سينحسر الموت القادم من الجشع لأنّ هناك مَن قالت حياتُه بعد موته أنّ الكلمة الأخيرة هي للحياة


أراكما يا أختي وأخي. أرى جسدكما الأرض، وعيونكما السماء. أرى دماءكما فلسطين المطعونة في جنبها والتي تقاوم الموت. أرى موتكما القيامة الآتية التي لا نراها جهاراً في اليوم الأوّل. أرى أمّكما مريمَ تحت الصليب. أرى الشاهدين على براءتكما بكلّ وسيلة وفي كلّ مكان، يوحنّا الواقفَ قرب مريم. وأرى الضاحكَ لضعف الجسد أمام الحديد، واقفاً على شرفة الانتحار لأنّه لم يعد يطيق نفسه، وأراه ينتحر بقتلكما.
أراكما، وأرى الضوء القادم من بعيد، أراه منبلجاً من عمق جسديكما اليوم بشكل سرّي لا تراه إلّا عيونُ القمر، ذاك الشاهد على مذابح البشريّة من دم هابيل إلى دمائكما.
لا خطيئة إلّا الجشع الذي يستولد كلّ خطيئة، الذي يلد كلّ جريمة، الذي يسكن كلّ ظلم، والذي يرمي الليل فوق ألوان العصافير.
سينحسر الموت القادم من الجشع الذي يخاف الموت فينهش بلحم الأبرياء، سينحسر لأنّ هناك، في قديم الأيّام، بضع قطرات دمٍ لبريئ هُزِئَ به ورُمي به خارج أسوار مدينة الأقوياء، كسرت أسلحة الإمبراطورية وأسقطت جيوش الرومان. سينحسر الموت القادم من الجشع لأنّ هناك مَن قالت حياتُه بعد موته أنّ الكلمة الأخيرة هي للحياة.
وعندها، عند انحسار الجشع والموت، سنحتفل ونهتف: لا حبّ إلّا الحبّ الشبيه بحبّ الألوهة للحياة، لا براءة إلّا للحبّ الراكض في أحياء طفولة الذاكرة ليقفز إلى آفاق الخاطرة. البراءة تشبهكما. ناما الآن في عيوننا وذاكرتنا، ولكن عندها، عند اندحار الجشع والموت، سنحتفل بكما بعد الليل الطويل.

* كاتب وأستاذ جامعي