غزّة لن تباد. هي حتماً صامدةٌ وتسطّر أساطير مقاومة. من يغزونها يُدفنون تحت مثلثات ودوائر حمراء كلّ يوم. لمصطلح «لن يمرّوا» معنى تاريخيّ لم يكن يوماً أوضح ممّا يحدث في غزّة اليوم. لن يمرّوا. لن تمرّ «إسرائيل». لن يمرّوا من باب المندب مهما حاولوا. لن يلتقطوا صورةً تذكارية في ساحة بنت جبيل، أو في مدرسة في غزة من دون أن يدفعوا ثمنها أرواحاً. كلّ يومٍ يتّضِح أنهم لن يمرّوا.في الإعلامِ يخسرون حيث لم يكن يتهيّأ أنّهم قد يخسرون من قبل. في الإعلامِ صحفٌ ناطقةٌ بأحرفٍ لاتينيّة تضطرّ إلى اللجوء يوميّاً إلى جمبازٍ لغويٍّ لتبرير خطّ تحريرهم الذي استحال تبريره. في الرأي العام، ليس من العامّة من بقي في صفّهم. في الرأي العام، خوارزمياتٌ تقمع ما هو رأيٌ وعامٌ. في العسكر مجازر من دون جدوى عسكريّة. في العسكر صوَرٌ لغزاةٍ ينتظرون الموت أو قرار عودةٍ إلى الاحتياط. في العسكر ضباطٌ يُنعون يوميّاً من دون جنودهم الذين لا يستحقّون النعي. في العسكر، «الياسين» يفتك. في السياسة تخبّطٌ مات كيسنجر ليتجنّبه. في السياسة تلعثَمَ الإفرنجُ وخرِس عملاؤهم العرب. في السياسة لم تعُد تسمع بابن زايدٍ أو راشدٍ أو خليفةٍ أو حتّى كبيرهم ابن سلمان. في السياسة اختفى زيلينسكي، فلوديمير زيلينسكي بطل الغرب، الذي غطّى على جائحة كورونا، نُسي. في السياسة لم تعد هناك قوى عظمى في روسيا والصين بل باتت كلّها عندنا.
تبعد غزّة عن بيروت ثلاث ساعاتٍ على طريقٍ لا زحمة سير فيه أو ركام مبانٍ مهدّمةٍ عليه (أو الاضطرار إلى المرور في صيدا التي كانت يوماً عاصمة الجنوب و«يا بحريّة هيلا هيلا»، قبل أن يحوّلها رفيق الحريري إلى مدينة ملح، ويهزأ ابن صديقي الذي لم يبلغ سنّ المراهقة بعد من تسميتها بالمدينة حتّى). تبعد غزّة عن بيروت بُعد التنظيم الشعبي الناصري والحزب الشيوعي اللبناني عن المقاومة اليوم، ولكن لا تبعد غزّة عن بيروت بحوراً وصحارى وأنفاقاً وتسليحاً وتدريباً وشهداء. «بيروت تشبه غزّة كثيراً»، قالت في يومٍ من الأيام صديقة غزّاويّة أثناء زيارة سوق صبرا ومخيّم شاتيلا: يا ليتَ بيروت تشبه غزّة اليوم. يا ليتَها تنبت حقول بيروت أبطال تحرّر وتحرير كما تفعل غزّة. في بيروت جامعات تخشى لفظ كلمة فلسطين. في بيروت نجيب ميقاتي يقود «دولةً» وجوزف عون يقود «جيشاً». في بيروت سفاراتٌ حمداً للخالق لا وجود لها في غزّة، وشكراً للآلهة لبنان ليس محصوراً ببيروت.
في الميدان تقاتل غزّة وعيتا وميس ومارون ويارون. في الميدان يقاتل اليماني والعراقي واللبناني. في الميدان مسافة الصفر باتت تحته. لمصطلح «لن يمرّوا» حيثيّة تاريخيّة في مواجهة الفاشية في أوروبا. في الإعلام والعسكر والسياسة والتاريخ لن يمرّوا. الفاشية التاريخية ذاتها هي التي تتجسّد اليوم كحرب إبادة ضد غزّةٍ لن تباد. أن يكون الهدف الإبادة مرضٌ، وأن تصطفّ خلف ذلك المريض عتهٌ، وأن تشهد على إبادة بصمت عارٌ. صمت بيروت عارٌ، وصمت القاهرة ودمشق أيضاً. غزّة لن تباد ولن تكون هناك صورة تذكارية في أي مكان. هذا الأمر محسومٌ. لكن عيب الصامتين في مدن الملح التي امتدّت من الخليج تجاه المحيط لن يُنسى. سوف تشبه بيروت غزة حتماً… وكذلك دبي والرباط ستشبهانها… ويافا وحيفا أيضاً، وحتماً لن يمرّوا.