كل حرب لها نهاية، وسوف تستقر على تسوية سياسية تنتجها الحرب نفسها. تلك مقولة علماء الاستراتيجية وخبراء حلّ النزاعات والتسويات والمفاوضات وأصحاب القرار في الدول المعنية وفي المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. لكنّ دور هؤلاء يتابع تطورات الحرب وينتظر الوقت الذي تنضج فيه إمكانية الوصول إلى إيقاف إطلاق النار والدخول في التسوية السياسية. وتكون هذه التسوية نتاج الحرب؛ من حقّق من الأطراف المتحاربة أهدافه فيها؟ ما هي موازين القوى في لحظة وقف إطلاق النار؟ وما هي التسوية التي قبِل بها الأطراف على أساسها وقف إطلاق النار؟ وعليه، فإن الحديث الذي يتداول عن اليوم التالي في غزة سابق لأوانه. لأن الحرب لا تزال في أوجها، ولا أحد يعرف ماذا يكون عليه ميزان القوى في الميدان سوى أن كل طرف من أطراف الصراع، وهما: المقاومة الفلسطينية عامة و«حماس» خاصة وحلفاء المقاومة، وقوات العدوّ وحلفاؤه، يعملون على ثلاث قواعد هي الآتية:
(1) أن كل من يخوض الحرب يعمل على أن يكون الغالب فيها ويحقق الانتصار.
(2) أن من يخوض الحرب يكون مستعداً لدفع كلفتها البشرية والمادية والسياسية والعسكرية الاستراتيجية، والذي يعبّر عنها في القدرة على تقديم التضحيات.
(3) أن يحدّد أهداف الحرب ويكون قادراً على تحقيقها وفرضها كمحصلة في التسوية السياسية التي تنتج من الحرب بعد وقف إطلاق النار.
يبقى الوضع في لبنان على ما تمّ فيه الاتفاق وفق ميزان القوى بعد حرب تموز


لو راقبنا هذه القواعد الثلاث التي تصدق على العدوّ وعلى الصديق، لتبيّن لنا أن كلاً منها لا يزال في مرحلة التحقيق. مع ملاحظات أساسية، منها:
أولاً: أن واحدة من علامات انتصار المقاومة في الحرب هي ما حصل في الهجوم المفاجئ على غلاف غزة وانهيار الوحدات العسكرية الإسرائيلية المعروفة باسم قوات غلاف غزة، وكذلك نظام الحماية والاستخبارات ونظام الإنذار واختراق الجدار المزوّد بكل وسائل المراقبة وعناصر الحماية.
وقد اعترف العدو بخسارة المعركة الأولى من الحرب وطلب مساعدة عاجلة من الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية التي جاءت بنصف قواتها البحرية والصاروخية إلى مياه البحر الأبيض المتوسط وأعلنت صراحة استعدادها لدعم العدوّ إلى درجة المشاركة في الحرب إذا ما توسعت.
ثانياً: أن حرب الإبادة البشرية في غزة فشلت في تهجير سكان القطاع الفلسطينيين وأظهرت انتصار المقاومة في القاعدة الثانية وهي القدرة على تقديم التضحيات. صحيح أنها تضحيات لا مثيل لها في الحروب، لكنها صورة ناطقة لانتصار الدم على السيف في الحرب.
ثالثاً: تبقى في الميدان، وحتى الآن الحرب فيها كرّ وفرّ، وتبادل ضربات، ومنع العدو من تحقيق اختراق عسكري صريح، سواء في شمال غزة أو في الوسط والجنوب. ولا تزال حامية الوطيس.
لكن هذه الحرب التي يغلب فيها عند العدوّ القتل على القتال، بدأت تحدث متغيّراً في الرأي العام الدولي وليست مفتوحة المدة إلى ما لا نهاية. بل لا بد من أن تتوقف في لحظة تكون فيها الحرب قد وضعت أوزارها للتسوية السياسية. وهي القاعدة المتعلقة بتحقيق الأهداف.
تظهر دراسات عدة أن أهداف «حماس» في «طوفان الأقصى» تقوم على: فك الحصار عن غزة، وتبييض السجون بتحرير الأسرى، وإيقاف الاستيطان والعدوان في الضفة، وحماية المسجد الأقصى، وإعادة الاندفاعة للقضية الفلسطينية على طاولة سياسات العالم، وتحقيق ما يمكن تحقيقه على صعيد الحقوق الفلسطينية المشروعة بما فيها حق العودة.
تلك هي الأهداف المباشرة لـ«طوفان الأقصى»، وقد تتحوّل، وفق تطورات الحرب، إلى مسائل تذهب من حرب التحرير إلى قيام الدولة الفلسطينية.
أهداف العدوّ كانت: سحق «حماس» والمقاومة، وتهجير سكان غزة، واحتلالها وتدميرها وقتل من يصمد فيها من أهلها، واستمرار الاستيطان، وتحرير الجنود الأسرى بالقوة، والإبادة البشرية ضد الشعب الفلسطيني، وتصفية القضية الفلسطينية.
هذا هو السقف العالي والمعلن لأهداف العدوّ، والذي أعلن على أساسه الحرب ومارس أعمالها كحرب إبادة بشرية تفوق الحرب بكل ما عرفت فيه من أجيال سابقة، بما فيها الحرب من الجيل الرابع.
في موازنة بين هذه الأهداف، يتبيّن أن الأهداف الفلسطينية واقعية وقابلة للتنفيذ، فيما أهداف العدوّ تقوم على إبادة شعب كامل وطرده من أرضه، ولا يمكن أن يقبل بها عقل بشري، إضافة إلى أنها مستحيلة التحقيق. ولذلك، تسارعت أعمال البحث عن مجريات اليوم التالي للحرب. وظهر شبه اتفاق دولي على أن الحل المعرّف بـ«إقامة الدولتين» وإعطاء الفلسطينيين دولة مستقلة هو أمر لا رجعة عنه، وفق تعبير الأمين العام للأمم المتحدة. وكذلك وفق مواقف وإشارات أميركية وأوروبية، وداخل الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وفي مؤتمر القمة العربية الإسلامية. حلّ الدولتين هو المرجّح في الموقف الدولي في اليوم التالي لإيقاف الحرب.
أذهب إلى أن هذا الأمر متحصّل للفلسطينيين مهما كانت نتائج الحرب؛ يعني متحصّل مسبقاً وميزان القوى سيفرض مكاسب أخرى تتعلّق بموضوع الاستيطان في الضفة، وإدارة الدولة الفلسطينية ومشاركة «حماس» و«الجهاد» فيها. يعني مشاركة أهل الميدان في غزة في الحل السياسي للحرب.
يبقى أمر واحد، أريد الإشارة إليه، يتعلّق بأثر التسوية السياسية في حرب غزة على لبنان؛ المقاومة الإسلامية في لبنان قامت بدور مساند للحرب في غزة، وللفلسطينيين وحدهم التفاوض حول اليوم التالي بعد الحرب. ولبنان والمقاومة يساندان الموقف السياسي الفلسطيني مساندة تامة، في السياسة وتحقيق الأهداف، كما هي حال المساندة في الحرب. لكن لا علاقة للمقاومة في لبنان بنتيجة التسوية السياسية، بل هي مسؤولية فلسطينية كاملة الأوصاف، ويقتصر الموقف اللبناني، منطقياً وقانونياً، من حيث موقع المساندة في هذه التسوية السياسية.
ولذلك، ومن الناحية المنطقية والقانونية أيضاً، يبقى الوضع في لبنان على ما تمّ فيه الاتفاق وفق ميزان القوى بعد حرب تموز؛ في معنى أن ما يحكم الوضع في لبنان هو ما حصل بعد حرب تموز واستطاع أن يثبت أكثر من سبعة عشر عاماً، وهو مستمر في نهاية حرب غزة.
إنّ ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة» هي الواقع الثابت في الجنوب اللبناني، والواقع اللبناني الحاكم في القرار الذي أعقب حرب تموز ٢٠٠٦، والمقاومة مشرّعة في القانون الدولي، وحقّ للشعب اللبناني في الدفاع عن وطنه وشعبه وأرضه وثرواته. والمقاومة قيمة ومفهوم من إنتاج الواقع السياسي اللبناني، وكل لعب على خلاف هذا الأمر مرفوض رفضاً قاطعاً. إنّ ما حصل في غزة يجعل من ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة مسألة ضرورة وطنية كبرى.
ما تعلّق بالقرار ١٧٠١ وما يحكى عنه وعن تفسيراته المغلوطة والمخالفة لا محلّ له من الإعراب سوى استمراره على ما هو عليه منذ سبعة عشر عاماً. وهذا يعطيه طابع الثبات والصلاحية في الصدق التاريخي، ولا يحتاج إلى أي حذف أو إضافة أو تعديل أو أي إجراء آخر غير قابل للصلاحية في الواقع السياسي الذي اكتسب مشروعية وطنية ودولية وواقعية وقانونية. وأدرجت المعادلة الذهبية في بيانات الحكومات اللبنانية المتعاقبة، وفي الاعتراف الدولي والعلاقات الديبلوماسية، وقرارات مجلس الأمن خلال السنوات السبع عشرة الماضية، ولا محلّ لها من البحث على الإطلاق ما تعلّق بمسألة الحدود والنقاط على الخط الأزرق وغيرها، كان الحديث عنها موجوداً قبل حرب غزة ولا علاقة لهذه الحرب في هذه المسألة.
باختصار مفيد، في لبنان لا تسويات جديدة. الأمر المنطقي والعقلاني والقانوني الدولي هو البقاء على القواعد التي تحصّلت في ميزان القوى في حرب تموز عام ٢٠٠٦ وما ثبّتته الحكومات اللبنانية في بياناتها عن مشروعية المقاومة. ووحدة الجيش والشعب والمقاومة، وفي علاقاتها الدولية والديبلوماسية التي تعاقبت على مدى سبعة عشر عاماً وهي الآن واقعية حقيقية.

* كاتب ووزير سابق