منذ اليوم الأول لحرب الإبادة ضد شعبنا، بدأ الحديث عن «اليوم التالي». الجميع، من إمبرياليين أميركيين وأوروبيين وأنظمة عربية متواطئة وعميلة، وبعضها مشارك، التقطوا هدف الحرب الذي وضعه نتنياهو وحفنة السياسيين والعسكريين حوله، بالقضاء على حكم «حماس» لقطاع غزة. بدأت التصريحات والمقترحات والتصوّرات، بعضها موضوع سابقاً وقائم على تهجير شعبنا، مثل المقترح الصهيوني المُعد، القديم الجديد، وبعضهم عكفوا، ويعكفون، على وضعها في دوائر المخابرات ووزارات الخارجية ومعاهد البحث المرتبطة بالدوائر الحكومية. جمعت تلك التصورات قواسم مشتركة: الرغبة المحمومة في تصفية القضية الوطنية وحقوق شعبنا، وهذا ليس بجديد، واعتبار القضية الفلسطينية قضية «أمنية» يجري حلها بترتيبات مخابراتية لضمان أمن الكيان حصراً، وتصفية المقاومة وحرمانها من ثمار انتصاراتها الميدانية منذ 7 أكتوبر وحتى اللحظة.ليس غريباً السلوك الإمبريالي الصهيوني، فالعداء لشعبنا وقضيته معروف، وأطرافه شريكة في حرب الإبادة. وليست غريبة، كذلك، مواقف بعض الأنظمة العربية العميلة جهاراً، فالمقاومة عرّت عجزها وفشلها التاريخي في مواجهة الكيان وهزيمته، وحرّضت شعوبها عليها، وفضحت تطبيعها، لا بل وعلاقاتها العسكرية والاستخبارية مع الكيان. الغريب، على الأقل من زاوية المشاعر الوطنية والأخلاقية، لا السياسية، هو موقف قيادة سلطة أوسلو، وهي ذاتها قيادة المنظمة. إنّ التصريحات الأخيرة لحسين الشيخ، أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة، المعادية جهاراً للمقاومة في القطاع، فضحت في العلن ما كان يتم التأكيد عليه في السر: العداء للمقاومة والرغبة في هزيمتها.
وقائع عديدة، قبل تصريح الشيخ، أشارت إلى موقف تلك القيادة، أولها ذلك الإصرار على اللقاء مع ممثلي الإمبريالية الأميركية، وآخرهم جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي. تلك اللقاءات التي تتم في ظل موقف أميركي مشارك في الإبادة، سواء عبر الجسر الجوي العسكري الذي يتضمن 60 طائرة يومياً، أو استقدام القوات الخاصة للمشاركة في النشاط العسكري للعثور على الأسرى، أو اللجوء الاعتيادي للفيتو دعماً للإبادة الصهيونية، وعلى النقيض من موقف ورغبة العالم شعوباً ودولاً، أو أخيراً الإعلان بشكل صريح عن السعي لتصفية «حماس» والمقاومة. لا يمكن تفسير هذا الاندلاق الفلسطيني على لقاء ممثلي الإمبريالية الأميركية في ظل تلك المعطيات المعروفة للقيادة، إلا بعدم اتخاذ موقف من المشاركة الأميركية في الإبادة الجماعية، والأخطر «غضّ النظر» عن موقفها من تصفية حركة المقاومة، إن لم يكن موقف المؤيد للتصفية.
وقائع أخرى تدعم هذا السلوك، لعل أهمها ذلك الإغفال المريب والغريب معاً في تغطية الإعلام الرسمي لفريق أوسلو، للحرب على غزة، وخاصة فضائيته. يذكرون المجازر الصهيونية وتضحيات السكان ولكن (لكن كبيرة!) لا ذكر مطلقاً للمقاومة وتصديها، والخسائر التي توقعها في جيش الكيان. المقاومة وإنجازاتها الميدانية غير موجودة، وكأنني بالقائمين على هذا الإعلام يعتقدون أنهم بعدم ذكر المقاومة ستغدو غير موجودة، ولكن لا أعتقد أنهم بهذه السذاجة ليعتقدوا ذلك، وبالتالي الأرجح عندي كخلفية لذلك الموقف اللامهني هو العداء للمقاومة لا أكثر، وتجنب الغضب الصهيوني من تغطية فعل المقاومة وإنجازاتها الميدانية.
يبدو أن الإعلام الرسمي يسير على النهج ذاته الذي عبّر عنه نبيل أبو ردينة حين أعلن لقناة «الحرة» أن «لا علاقة لنا بما يجري بين حماس وإسرائيل». لقد كان صادقاً وبحق، فما شأن فريق أوسلو بالمقاومة والقتال أصلاً؟ أمّا أن يصرّح بما صرّح به، وبهذا الوضوح، فهذا يحدّد، على الأقل، وبافتراض ما هو أقل خطورة سياسية ووطنية، «حيادية» فريق أوسلو عن ما يجري عند الجيران! وأخيراً، فحسين الشيخ غادر موقع الحيادية ليتخذ موقفاً ضد المقاومة علانية.

أين تقف منظمة التحرير؟
نعلم، ويعلم المتابع، أن هياكل المنظمة عاجزة ومتهتّكة، وعفا عليها الزمن، فالتكلس والغياب سيدا الموقف في عملها، وواحد يقف على رأسها يقرّر موقفها من دون اعتبار لأي عمل مؤسساتي، ما عنى ويعني غياب تلك المؤسسة. فأبسط المواقف الذي يجب اتخاذه لم تجرؤ عليه، وهو الدعوة للقاء وطني قيادي، وليسموه ما يشاؤون، لبلورة موقف سياسي موحّد من التطورات السياسية التي ترشح من تحركات أطراف «اليوم التالي». وهنا أيضاً كان الشيخ صادقاً حين أكد أن لا اتصالات مع «حماس». واضح أن آخر ما يهم قيادة المنظمة هو اتخاذ أي موقف وحدوي، لن يكون إلا على الضد من مؤامرة «اليوم التالي» التي يجري ترتيبها على حساب المقاومة والقضية الوطنية، وهو ما يمكن فهمه من موقف القوى الثلاث («حزب الشعب» و«الديموقراطية» و«فدا»)، الممثلة في اللجنة التنفيذية للمنظمة، والتي أعلن ممثلوها في المؤتمر الصحافي أنهم لم ينجحوا في إقناع تلك القيادة بتحقيق دعوة عاجلة لاجتماع الأمناء العامين. وما يتسرب من معلومات يؤشر أيضاً إلى رفض تلك القيادة، عبر تعبيرها الفصائلي، قيادة حركة «فتح»، دعوة «الجبهة الشعبية» لتشكيل قيادة طوارئ مؤقتة تضم الكل الوطني من دون استثناء، لتحصين موقف شعبنا السياسي أمام ترتيبات أميركية وصهيونية وعربية رجعية لـ«اليوم التالي».
وإذا كانت المهمة الأكبر الملحّة الآن هي وقف العدوان وحرب الإبادة، وتركيم إنجازات المقاومة وصولاً إلى هزيمة الكيان تماماً، فإن تحصين المقاومة سياسياً بموقف موحّد ضد الترتيبات المشبوهة لـ«اليوم التالي» لا يقل أهمية لتحقيق الهدف الأول.
يرفضون في قيادة سلطة أوسلو والمنظمة، وهي قيادة واحدة أصلاً، أيّ خطوات وطنية وحدوية لاتخاذ موقف سياسي موحّد بوجه مؤامرات «اليوم التالي»، لتحصين شعبنا ومقاومته، فيما لا يمتنعون، ولو من باب تحسين صورتهم المنهارة، عن لقاء مَنْ يحوكون تلك المؤامرات، لا بل يشاركون في الإبادة. لا يمكن فهم هذا السلوك إلا أنه الرغبة بأن يكون لهم دور ما في ترتيبات «اليوم التالي»، مع أن الموقف الصهيوني الرسمي لا يراهم أصلاً، برغم ما يشاع من أنهم لن يرضوا بأن يدخلوا غزة على ظهر دبابة إسرائيلية، فبالنهاية المهم سلوكهم السياسي الفعلي في الغرف المغلقة وفي الممارسة لا ما يقولونه في العلن.
رفض أيّ خطوات وحدوية، حتى لو تمتّعت، باعتقادي، بحظوظ ضئيلة جداً للنجاح في مخرجاتها، والإعلان صراحة أن «لا شأن لنا بما يجري بين حماس وإسرائيل» والمطالبة بمحاسبة «حماس» كما يريد الشيخ، وفي المقابل التشاور والتباحث السياسي مع ممثلي حرب الإبادة، خاصة الأميركين، كل ذلك يؤشّر إلى التساوق مع ترتيبات «اليوم التالي»، بالتوافق مع المطلب الأميركي التجهيزي بتجديد وتطوير السلطة تمهيداً لبسط سيطرتها على القطاع. إنّ الحديث عن تجديد وتطوير السلطة للعب دور في المستقبل هو بالضبط ترتيب تحويلها إلى سلطة عميلة دون روتوش، تنهض، كما يتوهمون ويعملون، على جثة المقاومة البطولية.
من المضحك التفكير في هكذا سيناريو لـ«اليوم التالي» والتعويل عليه. أولاً، يفترضون هزيمة المقاومة واندحارها لفرض ترتيباتهم، وكأنها غدت غير موجودة! وهذا محض غباء وعدم التفات إلى ما يجري في الواقع. المقاومة، باعتراف الصهاينة والأميركيين، لم تُهزم كي يضعوا ترتيباتهم لسلطة على جثتها، ويقيني لن تتسنى لهم فرصة ذلك، بل هي تحقق المنجزات يوماً بعد يوم ببطولة مقاتليها. الحاضنة الشعبية للمقاومة في القطاع والضفة وفي الدول العربية والعالم، باقية وقوية ولن تخذل المقاومة رغم مأساوية وضع شعبنا في غزة وتضحياته المهولة، فهل تتوقع قيادة سلطة أوسلو، والحال هذا، أن شعبنا في غزة سيخرج هاتفاً باسمها في الشوارع إذا ما قرّرت أن تجيئه على جثة تتوقعونها وتطلبونها للمقاومة؟
قيادة السلطة حددت موقفها كما يبدو: فتات سلطة تعوّل الحصول عليه ضمن ترتيبات «اليوم التالي»، رهاناً على هزيمة المقاومة و«انتصار» محور الإبادة. هذا مؤسف بطبيعة الحال، ولكن ذلك مسارهم منذ تشكّلت سلطتهم. إلى ماذا سيقودنا هذا؟
هذا يجب أن يقود إلى تصويب بوصلة الحريصين على العمل الوطني الفسطيني المقاوم الموحّد، تصويب البوصلة بعدم الرهان، دون فائدة مرجوّة، على «وحدة وطنية» وفق الصيغة الكلاسيكية المختبرة تاريخياً، والفاشلة تماماً. إنّ العمل الوطني المقاوم الوحدوي يجب أن يأخذ في الاعتبار حقيقة أن لا إمكانية واقعية لجمع الطرفين: المقاومة، بتعبيراتها المختلفة، بكل الزخم الشعبي الفلسطيني والعربي والعالمي الذي ينحاز إليها، ومحور الرهان على العودة إلى «تسوية ما» برعاية أميركية، ولو على جثة المقاومة وإبادة شعبنا. إنّ وحدة المقاومين، بمختلف تعبيراتهم الفصائلية، ومعهم القاعدة الفتحاوية الوطنية المشتبكة ميدانياً، على قاعدة برنامج المقاومة للتحرير والعودة هو الرد على محاولات ترتيب ما، أميركية/ صهيونية/ عربية رسمية، لـ«اليوم التالي»؛ محاولات قائمة على التمهيد لها بتصفية المقاومة والقضية الوطنية. ذلك هو التحصين السياسي المطلوب.

* كاتب فلسطيني وأسير سابق