رام الله | بصوته الثقيل، وظلّه المضيء المحفوظ عن ظهر قلب، خرج في صباح السابع من أكتوبر، ليعلن عملية «طوفان الأقصى»، ويدقّ مسماراً جديداً في نعش إسرائيل، والذي لم يتوانَ طوال ثلاثة عقود من المقاومة عن صناعته. هو الغائب الأكثر حضوراً، والنادر الذي ينشده الصغار والكبار هتافاً ثوريّاً، في مراسم تشييع الشهداء، وفي الزحف تأييداً للمقاومة: «حطّ السيف قبال السيف، حنّا رجال محمد ضيف». محمد الضيف، رجل الملحمة منذ أكثر من 30 عاماً، والأيقونة التي يتفاخر بها الفلسطينيون، وقد حقّ لهم ذلك، فهو الذي لم يتوانَ طوال السنوات الماضية، عن صفع إسرائيل في كل مرّة بشكل أكثر عمقاً وإيلاماً، مجسّداً حقيقة أن هذا الكيان «أوهن من بيت العنكبوت»، من السيف الذي استلّ في القدس، ومن أجلها في عام 2021، إلى «الطوفان» الذي جرفهم في السابع من أكتوبر، برّاً وبحراً وجوّاً.على أن عملية «طوفان الأقصى» لم تكُن الصفعة الوحيدة التي وجّهها الضيف إلى إسرائيل؛ إذ خلال مسيرته المقاوِمة، لم يتوانَ الرجل عن محاولة هزمها عسكرياً واستخبارياً، ما جعله المطلوب الأول لها طوال هذه العقود، علماً أنها فشلت في اغتياله في أكثر من 7 محاولات، أو في الحصول على صورة حديثة له، أو على معلومات حول وضعه الصحي. وفيما تطلق دوائر الاحتلال على الضيف أسماء؛ من بينها «ابن الموت» و«رأس الأفعى»، حاولت إسرائيل إحراز صورة نصر في عدوان عام 2014 باغتياله، لكنها فشلت في ذلك وقتلت زوجته، وداد عصفورة، وابنه الرضيع، وابنته البالغة من العمر 3 سنوات. آنذاك، حاول العدو التخفيف من هول الفشل أمام جمهوره، زاعماً أن الضيف أصيب بجروح خطيرة للغاية، وبات مشلولاً بفعل بتر أطرافه. ومذّاك، وهو يقدّم هذه الرواية الاستخبارية لجمهوره، حتى اكتُشف عكسها بعد 9 سنوات.
ففي خلال العدوان الجاري على قطاع غزة، وضع جيش الاحتلال الضيف، إلى جانب قائد «حماس» في غزة، يحيى السنوار، على رأس أهداف عدوانه، على رغم أن اغتيال قادة المقاومة، ثبت على مر أكثر من مئة عام، أنه لا يوقف هذه الأخيرة، وهو ما عبّر عنه الكاتب الإسرائيلي، حاييم ليفنسون، في الـ 8 من تشرين الأول، بالقول: «حتى لو عثرت إسرائيل على محمد الضيف في مخبئه وقدّمته للمحاكمة، فلن يكون لذلك أيّ معنى، إذ اكتملت الخسارة مع الصفعة الأولى». ولعلّ ما ميّز الضيف، خلال العقود الماضية، هو قدرته على الاختفاء، وعدم تمكينه إسرائيل من بناء ملفّ معلوماتي عنه؛ فدولة الاحتلال التي لا تمتلك صورة له توضح ملامحه الجديدة، منذ كان سجيناً لديها في عام 1989 لمدّة 16 شهراً من دون محاكمة، أعلنت وسائل إعلامها أخيراً العثور على مواد مسجّلة نَسفت كلّ معلوماتها الاستخبارية عن الرجل. إذ زعمت صحيفة «معاريف» العبرية أن جيش العدو عثر على شريط فيديو يُظهر أن الضيف لا يزال على قيد الحياة وينبض بكلّ ما للكلمة من معنى، مشيرةً إلى أن أحد المقاطع يظهر الضيف وهو يمشي على قدميه، وأنه كان يعرج قليلاً، وفي فيديو آخر، يجلس في مكان مختلف. ولفتت الصحيفة، بالاستناد إلى تلك المقاطع، إلى أن حالة الضيف أفضل بكثير ممّا زعمته إسرائيل، بعد سلسلة طويلة من الهجمات ومحاولات اغتياله، والتي أصيب في بعضها؛ إذ إنه يستطيع المشي بمفرده ولا يستخدم كرسياً متحرّكاً، وربّما يمكنه أيضاً استخدام كلتا يديه، خلافاً لمزاعم الاحتلال.
يبدو سجل إسرائيل في التعامل مع الضيف زاخراً بالفشل


وذكّرت الصحيفة بأن الضيف نجا من سبع محاولات اغتيال على مرّ السنين، وأصيب في أربع منها، من بينها واحدة في عملية «الجرف الصامد» عام 2014. وأضافت أنه في بعض المحاولات، أصيب بجروح خطيرة شفي منها، لافتةً إلى أن هذه الحقيقة المتمثّلة في أن الضيف على قيد الحياة ويعمل وفي حالة جيدة نسبياً، ويُظهر استقلالاً وظيفيّاً جسديّاً، يتعارض تماماً مع التقييمات الاستخبارية المفصّلة في السنوات الأخيرة، حيث اعتُقد، قبل اكتشاف هذه الفيديوات، أن الضيف عاجز، ويتنقّل بواسطة سيارات الإسعاف، ويستخدم كرسياً متحركاً، ويعاني من صعوبات وظيفية كثيرة.
ويبدو سجل إسرائيل في تعاملها مع الضيف متخماً بالفشل، الذي تجسّد جانب منه في الإخفاق المتكرّر في قراءة ما يخطّط له الرجل، ومنْع العشرات من العمليات الفدائية التي أشرف على تنفيذها، وأدت إلى مقتل وجرح مئات الإسرائيليين، طوال العقدَين الماضيَين. والجدير ذكره، هنا، أن الجيش الإسرائيلي قام، في الأسبوع الماضي، بتوزيع منشورات في قطاع غزة وعد فيها بمكافأة مالية قدْرها 100 ألف دولار أو أكثر، لأيّ شخص يقدّم معلومات موثوقة عن مكان وجود كبار مسؤولي «حماس»، من بينهم الضيف.
وفي خضم هذا الفشل، حاول جيش الاحتلال دغدغة الجمهور الإسرائيلي بصورة وهمية لانتصار من خلال الزعم اليومي عن قتل مئات المقاتلين من حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» واعتقال المئات، وفرض السيطرة على الكثير من المدن والمخيمات، بينما لا تزال المقاومة توجّه ضربات قوية إليه من أقصى شمال القطاع إلى جنوبه. وكان الجيش قد أعلن أن قواته وصلت إلى أحد منازل السنوار، وكذلك إلى الأنفاق التي كان يستخدمها، وبعضها أسفل منزله، على غرار ما قيل قبل نحو أسبوعين - على لسان نتنياهو نفسه - من أن قوات الاحتلال تحاصر منزل السنوار في خانيونس، وأنه سيتمّ اغتياله، وكأنه جالس في منزله ينتظر جنود الاحتلال.