في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين منذ أكثر من 75 عاماً، هناك عالم سريّ يُعرف باسم «مختبر فلسطين»، حيث يُجري المجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي تجارب تتجاوز نتائجها حدود الكيان الإقليمية. في كتاب «مختبر فلسطين: كيف تصدّر إسرائيل تكنولوجيا الاحتلال حول العالم»، الصادر في 23 أيار (مايو) 2023، يكشف الصحافي الاستقصائي وصانع الأفلام الألماني الأسترالي، أنطوني لوينشتاين، أنّه على مدى أكثر من 50 عاماً، كان الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة بمنزلة ساحة اختبار لا تقدّر بثمن للأسلحة وتكنولوجيا المراقبة. لقد أصبح نموذج السيطرة الذي طُوِّر في هذه المناطق هو الأساس الذي تقوم عليه «إسرائيل» بتصدير خبراتها إلى دول العالم، سواء أكانت «ديموقراطية» أم استبدادية. لقد ولّدت تجربة الاحتلال قوة عسكرية تكنولوجية هائلة تمتدّ إلى ما هو أبعد من حدود الشرق الأوسط.يقدّم التحقيق الذي أجراه لوينشتاين وصفاً شاملاً لصعود إسرائيل كرائدة عالمياً في مجال تكنولوجيا التجسّس وأجهزة الدفاع. شهد «المختبر الفلسطيني» تحسين أدوات تراوح بين برنامج «بيغاسوس» سيّء السمعة، إلى الأسلحة الفتّاكة التي بيعت لجيش ميانمار، المسؤول عن الإبادة الجماعية المأساوية للروهينغا. ما يوضح المدى الواسع والمثير للقلق للتقنية العسكرية الإسرائيلية.
(مايكل تشايبون ــ الولايات المتحدة)

وبينما يشهد القرن الحادي والعشرون طفرة في القومية العرقية، طرحت إسرائيل نفسها كنموذج للدول التي تسعى إلى أدوات فعالة للسيطرة على السكان. إنّ بنية السيطرة، التي صُقلت في «مختبر فلسطين»، تلبّي احتياجات الطغاة والديموقراطيات على حد سواء. ويؤكد عمل لوينشتاين الحقيقة المثيرة للقلق، هي أنّ المساهمة العالمية الأكثر أهمية لإسرائيل لم تعد أيديولوجيتها السياسية، بل «تصدير المراقبة والتجسّس والتكنولوجيات العسكرية»، التي غالباً ما تغذّي انتهاكات حقوق الإنسان والصراعات الوحشية. العواقب المترتبة على تصدير إسرائيل لتقنيات فرض الاحتلال على السكان، واضحة في التحقيق الذي أجراه لوينشتاين. من غواتيمالا إلى ميانمار، مكّنت هذه التكنولوجيات من ممارسة العنف والقمع الوحشيَّين. ويستشهد المؤلف بوصف نعوم تشومسكي لمسار إسرائيل من كونها «نور الأمم» إلى «مروج للعنف»، مسلّطاً الضوء على «الأزمة الأخلاقية» التي تصاحب دور الكيان على المسرح العالمي بينما يتصارع العالم مع آثار التحوّلات الجيوسياسية، وأزمة المناخ، والديناميات المتطوّرة للصراع العالمي.

قضم القرى والطرقات
يبرز الكاتب والأكاديمي الإسرائيلي الأميركي والمدير السابق لـ «اللجنة الإسرائيلية المناهضة لهدم المنازل»، جيف هالبر، كشخصية مركزية في الكتاب، خصوصاً في استكشاف مفهوم «مختبر فلسطين». تسلّط أفكاره الضوء على الدور المتعدد الأوجه للأراضي الفلسطينية المحتلة في تشكيل الديناميكيات العالمية، وتقدّم منظوراً نقدياً للمجمع الصناعي العسكري الإسرائيلي. يتحدث الكتاب عن مفهوم هالبر عن «صناعة التهدئة العالمية» الذي يُعد بمنزلة حجر الزاوية لفهم مشاركة إسرائيل في المجمع الصناعي العسكري العابر لحدود الكيان.
يؤكد هالبر أنّ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية لا يمثّل عبئاً مالياً على سلطة الاحتلال. واقعياً، احتلال أراضي والسيطرة عليها وتفعيل المراقبة وكل تلك الأمور التي ترافق ذلك، ذات كلفة مالية كبيرة. لكن كيان الاحتلال حوّل هذا الأمر إلى رصيد إستراتيجي، ويؤكد أنّ الأراضي المحتلة صارت «ساحة اختبار حقيقية»، حيث توفّر فرصاً لا تقدّر بثمن لإسرائيل لتحسين ابتكاراتها وتطويرها وعرضها في مجال المراقبة والطائرات من دون طيّار وغيرها من تقنيات الحرب. ما يجعل الكيان المحتلّ لاعباً رئيسياً في تطوير المعدات العسكرية المتطوّرة واختبارها، أي إنّ العدوّ جعل من الشعب الفلسطيني سيناريو واقعياً وحقيقياً لتجربة الأسلحة الجديدة وتطويرها، ثم عرضها مع فعالية موثقة على الفلسطينيين من أجل بيعها.
أثار التحوّل نحو «حصن رقمي» في أوروبا ما بعد الوباء مخاوف بشأن اللاجئين


في دراسة الحدود الديناميكية للأراضي المحتلة، يقول هالبر إنّها مرنة وتتغيّر وتتحوّل باستمرار. وتؤكد ملاحظاته النهج الإستراتيجي المحسوب الذي تستخدمه إسرائيل في سياساتها التوسعية، مع التركيز على التعدّي الخفي على القرى والطرقات الفلسطينية. علاوة على ذلك، يتوسّع منظور هالبر إلى المسرح العالمي، ويؤكد أنّ الاحتلال ليس عبئاً، بل مصدر فخر لإسرائيل في سعيها للحصول على مكانة داخل المجمع الصناعي العسكري العالمي.
من ناحيته، يسهم المهندس المعماري البريطاني ــ الإسرائيلي ومدير مجموعة الأبحاث Forensic Architecture، إيال وايزمن، برؤى مهمة في الكتاب. إذ توفّر وجهات نظره فهماً للأبعاد المكانية والمعمارية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. يقدّم وايزمان مفهوم «الحدود المرنة»، مشيراً إلى أنّ حدود الأراضي المحتلة ليست جامدة أو ثابتة، بل مرنة إلى حدّ ما. ويصفها بأنّها في حالة تحوّل مستمر: مدّ وجزر. ويؤكد هذا التصوير الديناميكي مرونة السياسات التوسعية الإسرائيلية، ويوضح النهج الإستراتيجي الذي يقضم خلسةً القرى والطرقات الفلسطينية. كما يشير إلى أنّ حدود الأراضي المحتلة مفتوحة لتوسع لا نهاية له، إذ تسعى مجموعات المستوطنين بنشاط إلى البحث عن فرص لزيادة أعدادهم. ويسهم هذا النهج التوسعي في تصعيد التوترات بين المستوطنين والفلسطينيّين ويوفر خلفية لـ «تطوير تقنيات جديدة للسيطرة والفصل». أي حتى عبر عمليات التوسع وقضم أراضي الضفة الغربية، يحاول كيان الاحتلال تطوير تقنيات في هذا المجال.

المجمع الصناعي لأمن الحدود
يتحدّث الكتاب عن تحالف غير مرئي بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي يُشكّل المستقبل بصمت. في قلب هذا التحالف، يقع المجمع الصناعي لأمن الحدود، حيث تتقاطع المخاوف الأمنية المتوسعة للاتحاد الأوروبي من المهاجرين مع الخبرة الإسرائيلية في مجال التكنولوجيا العسكرية. ورغم الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي ضد المستوطنات الإسرائيلية، إلّا أنّ «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية» (ECFR)، يكشف أن عدداً من الاتفاقيات يفتقر إلى تعريفات واضحة، ما يسمح للمستوطنات بالإفادة المحتملة من الاتفاقيات الثنائية.
ويمتد هذا التعاون إلى «فرونتكس»، قوّة أمن الحدود التابعة للاتحاد الأوروبي، التي شهدت زيادةً غير مسبوقة في الميزانية، حيث وصلت إلى 543 مليون يورو في عام 2021. وقد أدّى الارتفاع العالمي في أعداد المهاجرين إلى تغذية هذا النمو، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى اعتماد تقنيات متقدّمة مثل الذكاء الاصطناعي، وأنظمة كشف الكذب التي تعمل بالذكاء الاصطناعي وحملات القمع على تطبيقات الرسائل المشفّرة لتقوية «حصنها الرقمي». وتلعب الشركات الإسرائيلية، مثل Cellebrite وWindward، دوراً محورياً في توفير الأجهزة الرقمية وأدوات التحليل للاتحاد الأوروبي.

يثير التغيير الديموغرافي في الكيان تساؤلات عن ميزان القوى المستقبلي والنفوذ داخله


ووفقاً لتقرير نشره موقع eccpalestine في 19 كانون الأوّل (ديسمبر) 2022، تتباهى هذه الشركات الإسرائيلية وغيرها، بأنّ تكنولوجيّتها مأخوذة مباشرة من الجيش الإسرائيلي، وأنّ مؤسسيها من خرّيجي وحدتَي الاستخبارات الإسرائيلية 8200 و81 و«الموساد». كما أنّ هذه التكنولوجيا صُممت واختُبرت كجزء من الاحتلال الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري في فلسطين، واستُخدمت لابتزاز الفلسطينيين ليصبحوا متعاونين، فضلاً عن تخريب عمل منظمات المجتمع المدني الفلسطينية، وإسكات المحاولات الرامية إلى محاسبة قوات الأمن الإسرائيلية على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة ضد الفلسطينيين.
استحالت «فرونتكس» قوةً أمنيةً متعدّدة الجنسيات سيبلغ عددها حوالى 10 آلاف بحلول عام 2027. وقد أثار التحوّل نحو «حصن رقمي» في أوروبا ما بعد الوباء مخاوف بشأن تأثير ذلك على اللاجئين. إذ إنّ اعتماد الاتحاد الأوروبي على تلك الأنظمة يكشف التزامه بردع اللاجئين عبر التكنولوجيا المتقدمة. وقد أعرب المشرّع الأوروبي، باتريك براير، عن مخاوفه بشأن استخدام هذه التقنيات، مؤكداً الضرر المحتمل والآثار الأخلاقية لذلك. ويعكس هذا الالتزام الأوروبي، التطوّر الرقمي للممارسات الوحشية التي شهدها الشعب الفلسطيني من الاحتلال، حيث كانت الأراضي الفلسطينية في كثير من الأحيان بمنزلة أرض اختبار لتقنيات المراقبة.
ورغم المخاوف القانونية، يظلّ الاتحاد الأوروبي ملتزماً بهذا التعاون. علماً أنّ اليونان تحديداً عزّزت علاقاتها الدفاعية مع إسرائيل بصفقة بقيمة 1.65 مليار يورو في عام 2021، وهي الأكبر على الإطلاق بين الجانبين. وتضيف العلاقة المتفرّدة بين إسرائيل وألمانيا طبقة أخرى إلى هذا التحالف، عبر دعم برلين الثابت للاحتلال المتجذّر في الذنب التاريخي الواضح للعيان.

أزمة المناخ وآفاق المستقبل
اللافت في ما نشره أنطوني لوينشتاين في كتابه كيف يرى قادة الاحتلال المستقبل ويتصوّرونه. بينما يتصارع العالم مع أزمة ارتفاع حرارة كوكب الأرض، تتصور إسرائيل مستقبلاً حيث لا تستجيب الدول القومية لتدابير مناخية نشطة، بل عبر عزل نفسها ضمن إستراتيجية تذكّرنا بنموذجها الخاص. فقد أصبحت الجدران والحدود والحواجز وأنظمة المراقبة والتعرّف إلى الوجه والطائرات من دون طيار وقواعد البيانات البيومترية، مكوّنات أساسية لهذه الرؤية البائسة. وفي حلول عام 2025، من المتوقع أن تصل قيمة المجمع الصناعي لمراقبة الحدود إلى 68 مليار دولار، مع اعتبار الشركات الإسرائيلية مثل «إلبيت» من المستفيدين الرئيسيّين. ويعتقد قادة الاحتلال أنّ الدول ذاهبة إلى عالم أكثر انغلاقاً على نفسه، وبالتالي تريد أن تكون في طليعة مصدّري التكنولوجيا والتقنيات التي تؤمّن السيطرة والتحكّم والفصل ومراقبة الحدود للدول.

النفوذ الأرثوذكسي المتطرّف ومكانة الأقلية
ضمن صفحات الكتاب، يظهر مصطلح «الأرثوذكسية المتطرّفة» في سياق التحوّلات الديموغرافية في «إسرائيل». ويشير إلى تحوّل ديموغرافي، إذ سيكون ثلث السكان اليهود الإسرائيليّين في حلول عام 2050 من اليهود الأرثوذكس المتطرّفين. وينطوي هذا التوقع على زيادة كبيرة في تأثير المجتمعات الأرثوذكسية المتطرّفة داخل الكيان. ومن المتوقع أن يسهم صعود اليهود المتديّنين في خلق مستقبل أكثر تحفّظاً. وباعتبارهم مجموعة ديموغرافية محافظة، فإنّ وجودهم بأعداد كبيرة يمكن أن يطبع السياسة الإسرائيلية، ما يؤثر في القضايا المتعلقة بالدين والمجتمع والحُكم. ويثير هذا التغيير الديموغرافي تساؤلات عن ميزان القوى المستقبلي والنفوذ داخل الكيان، خصوصاً بالنظر إلى المسار المحافظ المرتبط بتزايد المتطرفين. وبالتالي، يصبح فهم دور المجتمع الحريدي في تشكيل النسيج الاجتماعي والسياسي لإسرائيل أمراً بالغ الأهمية عند دراسة الاتجاهات المحتملة التي قد يتخذها قادة الاحتلال في العقود المقبلة.