لم ينفع رؤساء الكنائس في فلسطين تبريرهم للقاء رئيس دولة الإبادة والتطهير والتهجير الصهيوني حاييم هرتسوغ، في وقف الحملة الشعبية ضد اللقاء التطبيعي الاستفزازي للفلسطينيين عموماً، وللمسيحيين تحديداً، لا الحديث عن «الستاتيكو»، ولا «البروتوكول»، ولا ما قالوه في بيانهم التوضيحي، كما وصفوه، بل التبريري كما يبدو، بأنهم طالبوا بـ«وقف شلال الدم»، فيما خلا بيانهم من الإشارة إلى الكيان كمرتكب لـ«شلال الدم»، حتى هذه لم يقووا على ذكرها.لذلك، كان مفهوماً تماماً أن يصف البيان الصادر عن أبناء الطوائف المسيحية في فلسطين ودول اللجوء والمنافي، اللقاء بأنه «مخجل وصادم»، يتمّ مع واحد من أبرز شخصيات الكيان، والذي كان برّر الإبادة لشعبنا في القطاع بأن غزة «لا يوجد فيها مدنيون أبرياء». لقد حصل البيان حتى اللحظة على آلاف التوقيعات من فلسطين وخارجها. فعلاً لقد كان صادماً ومخجلاً أن يتجرّأ رؤساء الكنائس على عقد هذا اللقاء فيما شعبنا يُذبح على أيدي الصهاينة، ومن ضمنهم مسيحيو غزة، فيما تُدمر كنائسهم، وتُقتحم وتُدمّر مستشفياتهم مثل المستشفى المعمداني.
يبدو أن هؤلاء الرؤساء لم يتحسّسوا المعنى السياسي الاستفزازي لخطوتهم تلك، فضلاً عن عدم تحسّسهم الوطني والتضامني مع ضحايا شعبنا، وقبل ذلك وبعده احترامهم لمشاعر وموقف مَنْ يدّعون تمثيلهم دينياً، أي المسيحيين الفلسطينيين، لذلك لم يتردّد البيان المذكور أعلاه في إطلاق الصيحة/ الشعار: «أنتم لا تمثلوننا»، والدعوة لمقاطعتهم وعدم استقبالهم في مواسم الأعياد هذا الشهر، فيما المطالبة أيضاً بمحاسبتهم التوبيخية.
ولأنه استفزازي وصادم، فقد «روّست» «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بيانها في ذكرى انطلاقتها بعبارة «العار سيظل يلاحق الذين شاركوا في اللقاء مع رئيس الكيان الصهيوني»، فليس من عار أكثر من مصافحة يد المجرم القاتل، وشعبك يُذبح منذ أكثر من 80 يوماً. أمّا بيان حركة «حماس» في هذا الصدد، فقد عبّر عن الصدمة أيضاً من عقد اللقاء، فيما أكّدت الحركة، وبحق، ما يقرّه المسيحيون الفلسطينيون: «نحن نعتقد أن هذه القيادة المسيحية، بهذا السلوك، لا تمثل أبناء شعبنا بكل طوائفه»، وهذا ينسجم بالتأكيد مع الموقف العام المسيحي الشعبي الذي عبّر عن نفسه بقوة على شبكات التواصل.
على مدار عشرات السنين، والمسيحيون الفلسطينيون يناضلون ضد رأس الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في فلسطين والأردن


مؤسسات دينية وسلوك مشبوه تاريخياً
وما يثير حفيظة المسيحيين الفلسطينيين كثيراً، كنتاج لممارسات من هذا القبيل، أن رؤساء الكنائس، وبموقعهم الرسمي على رأس كنائسهم، يوحون بسلوكهم اللاوطني واللاإنساني والتطبيعي، وكأن وطنية وتاريخ المسيحيين الفلسطينيين موضع شك، بما يشكل إساءة بالغة للدور والموقف والتاريخ الوطني للمسيحيين الفلسطينيين.
هل نحن بحاجة إلى التذكير بالرموز الوطنية العملاقة المتحدّرة من الأوساط المسيحية في تاريخ شعبنا وثورته؟ من أمثال جورج حبش ووديع حداد ونايف حواتمة؟ أو برجال دين مسيحيين ومناضلين من أمثال عطالله حنا ومناويل مسلم وإيلاريون كبوشي؟ أو بالآلاف من المناضلين والشهداء والجرحى المسيحيين في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني؟ هذا معروف لشعبنا بكل اتجاهاته، ولذلك يكون اللقاء طعنة استفزازية لهذا التاريخ والحضور والدور الوطني للمسيحيين الفلسطينيين.
مرة أخرى، تجبهنا العلاقة بين المسيحيين الفلسطينيين، الوطنيين بامتياز، ومؤسساتهم الدينية في فلسطين. على مدار عشرات السنين، ومنذ مطلع القرن العشرين، والمسيحيون الفلسطينيون يناضلون بجراءة ضد رأس الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في فلسطين والأردن، أي جماعة القبر المقدّس، المؤسسة اليونانية المهيمنة على الكنيسة منذ القرن السادس عشر، والتي سرّبت مئات آلاف الدونمات للاستيطان اليهودي ولا تزال، فاشتبكت مع المسيحيين الأرثوذكس في صراع مرير، ليس فقط ضد تسريب الأراضي، بل وضد الهيمنة اليونانية ذات الطابع الاستعماري الاستفزازي، ومن أجل تعريب الكنيسة الأرثوذكسية. وفي السنة الماضية، انفجر صراع أيضاً بين المسيحيين الأرمن الفلسطينيين ورأس الكنيسة الأرمنية، الذي قام بتسريب عقارات تتبع الكنيسة الأرمنية في البلدة القديمة في القدس للمستوطنين.
في كل هذه المعارك، لم تكن جبهة المواجهة تقتصر على المسيحيين، بل كانت مواجهة وطنية ضمّت مختلف التيارات السياسية والانتماءات الدينية والطائفية، ومن المؤمنين وغير المؤمنين أيضاً، فالمعركة في كل الحالات هذه، وآخرها اللقاء التطبيعي مع ممثل دولة الكيان، هي معركة وطنية بامتياز، لذلك لاحظنا مراراً مشاركة المسلمين الفلسطينيين في النضال ضد العصبة اليونانية وتسريبها للأراضي. وكذلك تكرّرت الظاهرة نفسها في تواقيع لنشطاء من أصول دينية مسلمة على البيان الصادر والمشار إليه أعلاه.
كل تلك المواجهات تؤشّر إلى حقيقة أن المؤسسة الدينية لا تمثّل التطلعات الوطنية لأبناء الكنائس، ولا تعكس موقفاً دينياً وطنياً ينسجم مع خصوصية وقوع الشعب الفلسطيني، ومسيحييه منه، تحت الاستعمار الكولونيالي، لذلك دائماً ما كانت المؤسسة الدينية في واد، هو وادي التعايش والتطبيع وممالأة الاستعمار، والمسيحيون الفلسطينيون في واد آخر هو وادي المقاومة والنضال. الشعب الفلسطيني، بكل مكوّناته، مع المقاومة حتى التحرير والعودة، فيما رؤساء الكنائس يلتقون ممثّل الإبادة تحت مبرّرات البروتوكول والستاتيكو. هذا لن يلتقي مع ذاك، لذلك فرؤساء الكنائس يمثّلون أنفسهم لا المسيحيين الفلسطينيين.