الحديث عن اعتقال الحكومة البحرينية للسياسي البارز، إبراهيم شريف، في الـ20 من الشهر الجاري، لإدانته مشاركة المنامة في التحالف البحري الأميركي في البحر الأحمر، يوصلنا إلى التأمّل في موقف الجماعات السياسية في الجزر من «حلف الفجور» الذي أنشأته أميركا دعماً لإسرائيل، ومناقشة فرضية توسّع الصدام الأميركي الخشن مع «أنصار الله»، وفي ما إن كانت البحرين - وهي مقرّ التحالف - تمثّل نفسها أم «المحور السعودي» في التحالف البحري الجديد - القديم. لفهم موقف الرياض من التحالف الجديد، ومن الإجراءات العسكرية التي قامت بها حكومة «أنصار الله» ضد الاحتلال وسفنه، يمكن تتبّع أفعال الحكومة السعودية إزاء الكيان الإسرائيلي واليمن وأميركا و«حماس» وإيران، ودراسة مواقف الأطراف اليمنية والإقليمية القريبة من الرياض. عموماً، لا تساعدنا التصريحات السياسية، بالقدر الذي نتوقّعه، للوقوف على حقيقة التوجّه السعودي، وغير السعودي. فالتصريحات الصادرة من أي طرف سياسي لا تعكس الموقف الفعلي بالضرورة، فقد تكون موجّهة للاستهلاك العام، أو للعلاقات العامة، أو حتى نكران واقع متجسّد... إلخ. بعبارة واحدة، إنّ التصريحات لا يمكن الركون إليها لقياس الموقف السياسي. ويخطئ المحلّلون حين ينساقون وراء كلام أميركا، أو غيرها، بشأن أيّ حدث، بينما إجراءاتها في مكان آخر.
على مستوى الخطاب السياسي، ما زالت السعودية تلتزم «الحياد السلبي» بين طرفين تأمل أن ترتبط بأحدهما (الكيان) بعلاقات تطبيعية، وأن ينضوي الآخر (حماس) في ركب «محور الاعتدال» العربي - الأميركي، على طريقة «فتح»، بدل عضوية جناحها (حماس) العسكري في «محور المقاومة». كما نأت الرياض بنفسها عن الانخراط في التحالف الجديد الهادف إلى تمكين السفن من الوصول إلى موانئ الكيان، بل تمكين إسرائيل من المضيّ في مقولة «الدفاع عن النفس» وتدمير غزة، في ظلّ جهود «محور المقاومة»، ممثّلاً بـ«الأنصار»، لمحاصرة الكيان، وإن استلزم ذلك اللجوء إلى القوة. في المقابل، شاهدنا مواقف ما يسمّى «الحكومة الشرعية» في اليمن، و«المجلس الانتقالي الجنوبي»، وهما يدينان حكومة «أنصار الله». وقد يُفسَّر الموقفان المذكوران على أنهما يعكسان ما يختمر في قلب السعودية وعقلها من تصورات. رغم تلك التصريحات، فإن «المجلس الرئاسي» اليمني نأى بنفسه عن الحلف، لكن عضوية البحرين، التي لا تخفي اتّباعها النهج السعودي، يسمح بالقول إن الرياض وضعت رِجلاً في التحالف. وردّت أميركا بالموافقة على بيع السعودية أسلحة هجومية، وبمواقف أخرى تناغمية.
الحرب متوسّعة أصلاً، وهي تشمل غزة والضفة وجنوب لبنان واليمن، والبحر الأحمر وبحر العرب، وحرب الظلال بين إيران والكيان، والتي تتبدّى في عمليات سيبرانية تعطّل محطات وقود في إيران، واستهداف لسفن إسرائيلية في المحيط الهندي. مع ذلك، لا توقعات بنشوب حرب كبرى تنخرط فيها إيران مباشرة وأميركا. التوقّعات ما زالت منخفضة بأن تستهدف أميركا مواقع لـ«أنصار الله»، ما قد يجرّ رداً صاعقاً على السعودية أو الإمارات، «الخاصرة الرخوة» للتحالف الأميركي، في وقت تسعى فيه إيران إلى تشجيع السعودية على الاستمرار في هذا الحياد.
لا مجال لمزيد من التفاصيل، لكن لنتذكّر أن جلّ الحروب التي افتعلتها أو غذّتها أميركا في المنطقة لم يتوقّعها أحد، أو لم يُتوقع أن تبلغ ما بلغته من مدى زمني وضحايا وتدمير، سواء الحرب الأهلية في لبنان، أو حرب صدام ضدّ إيران، أو غزوه للكويت، أو العشرية السوداء في الجزائر، أو غزو أميركا للعراق، والدمار الذي طال سوريا وليبيا، أو وصول «أنصار الله» إلى صنعاء، والعدوان السعودي عليها. ومؤخراً، لم يتوقّع أحد طوفان السابع من تشرين الأول. وهذا يدفع إلى القول إنه رغم كل الإشارات الصاخبة المعبّرة عن قرب الانفجار، فإن الحرب تبدأ من دون سابق إنذار، ثم تتدحرج، ولا تتوقّف إلا إذا لم تجد ما تأكله، أو أن تجد أميركا نفسها مشغولةً بالإعداد لحرب تالية طاحنة في منطقة لا يراد لها الهدوء والاستقرار والتنمية.
في آذار 2015، اعتقلت المنامة الناشط السياسي، فاضل عباس، ثم سُجن ثلاث سنوات، بسبب تغريدات دان فيها مشاركة البحرين في التحالف السعودي الذي بدأ وقتئذٍ العمليات الحربية الدامية على اليمن. ذلك بعض ما يرفع منسوب القلق بشأن احتمال الزج بشريف (66 عاماً) في السجن، فقد اتُّهم بـ«إذاعة أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة زمن الحرب»، وهي الادّعاءات ذاتها التي في ضوئها سُجن عباس.
المثير أن مساهمة البحرين في التحالف معلَنة، ولا تعيش الجزر زمن حرب. فهي غير مهدّدة من «أنصار الله»، ولا من «محور المقاومة»، الذي يركّز على الكيان. ولو كانت مهددة، لما شاركت، وهذا يضيف تأكيداً أن الادعاء بقيام شريف بإذاعة أخبار كاذبة، يشي بوجود غايات سياسية للمحاكمات. أمّا مصطلح «زمن الحرب» الوارد في التهمة المستلّة من قانون العقوبات، فهو يشي بأن الفعل الحربي ضد غزة غاية حلف الشياطين هذا.
الاعتقال يعكس تمسّك الحكومة بنهجها الداعم لأميركا، وإبراز المساهمة البحرينية «المتفرّدة»، إقليمياً ودولياً، ما يوجب على أطراف الحلف الإشادة بالمنامة، ودعمها إزاء ما تواجهه من تحدّيات أمنية مُدّعاة. والاعتقال يأخذ في الحسبان أنّ البحرين مقرّ للقاعدة الأميركية، التي تشكّل منطلقاً للتحالف البحري المشترك، الذي أُعلنت نسخته التأسيسية عام 2002، ثمّ تبلور على نحو أوضح في العام الماضي، في إعلان تشكيل «القوة 153» المعنية بأمن البحر الأحمر، بمساهمة 38 دولة، أكثر من نصفها نأى بنفسه عن التحالف الذي أعلنه «البنتاغون» قبل نحو عشرة أيام.
محلياً، غاية الاعتقال ردع اتساع رقعة الإدانة للتحالف البحري، في بلد منقسم على نفسه، سياسياً، لكن شعبه يجمع على مناصرة فلسطين، ككلّ الشعوب العربية، ويكاد يجمع على رفض التطبيع. أقول يكاد، لأنه يجدر التمييز بين الأمرين، فحتى حكومتا الإمارات والبحرين تقولان إنهما تناصران فلسطين، فهل توجب النصرة دعم المقاومة ورفض الإقرار بشرعية الاحتلال ومناهضة التطبيع؟ إنه نقاش عميق ومهم، ذلك أن إعلان نصرة فلسطين الذي يكرّره محورا الرياض وأنقرة، بات شعاراً فضفاضاً وبارداً، ما لم يترافق مع رفض التطبيع، ورفض التحالفات الحربية المناصرة للكيان. إنه سؤال برسم الموالاة في البحرين، المدعوّة إلى التمييز بين المسائل. فالخلاف حول الدستور وصلاحيات المؤسسة التشريعية التي تريد المعارضة توسيعها، لا يجدر أن يمنع التواصل والائتلاف دعماً لإبراهيم شريف ومواقفه، ورفضاً للتحالفات الشيطانية.