«أنا الجرح وأنا السكين»، يقول بودلير شعراً، ومثله يفصح يوسف عبدلكي (1951) رسماً. في قسوته التعبيرية ألم وجرح إنسانيّ عميق. الإنسان قضيّته فناناً. الإنسان مقتولاً أو مقموعاً أو مضطهداً أو معذّباً ومظلوماً. لذا، لا غرابة إنْ حرّكت مأساة غزة المستمرّة فصولاً ويوميّات دمويّة وجدان التشكيلي السوري المتألّم لمآسي أبناء القطاع، أطفالاً ونساءً وشيوخاً. ليست القضية الفلسطينية مستجدّة في أعماله. قبل عقود طويلة، رسم ابن القامشلي «ثلاثية أيلول الأسود» التي كانت عبارة عن جدارية كبيرة تستدعي «غيرينيكا» بيكاسو، مجسّداً فيها التغريبة الفلسطينية المستمرّة.
ثمة تقاطعات في عالم عبدلكي التشكيليّ ‏مع صرخة غويا

علاقته بالمأساة الفلسطينية قديمة تفعّلها طاقة الاحتجاج على الألم، وها هي الطاقة عينها تتفجّر على ضوء مجازر غزة اليومية التي استحضر مشاهدها في مجموعة لوحاته الجديدة المعروضة اليوم في «مؤسسة دلّول للفن» (DAF) في بيروت ضمن معرض جماعي نُظّم بالتعاون مع المتحف الفلسطينيّ في بيرزيت، وخُصّص لأطفال غزة الذين تقتلهم آلة الإبادة الإسرائيلية، ومنح عنوان «أمير غزة الصغير» المستوحى من كتاب «الأمير الصغير» لأنطوان دو سانت إكزوبيري، ومن اسم منحوتة برونزية للفنان اللبناني شوقي شوكيني.
‏وإنْ جدّد يوسف عبدلكي دوماً في أسلوبه ونقلاته المفاجئة، إلا أنّ الملامح الأساسيّة والفريدة في هذا الأسلوب تظلّ ثابتة: الأبيض والأسود والرماديّ، عناصر الصدمة والقسوة كهذا الذئب المعدنيّ المتوحّش، الذي يرمز حكماً إلى الوحش الإسرائيليّ فوق الطفل الغزاويّ ‏متهيّئاً لسحقه والتهامه، الفراغ المحيط بالمركز، واستخدام مادتَي الفحم والرصاص وتلك الخطوطيّة الرفيعة والكثيفة التي تغطّي لوحات الفنان منذ البدايات.
فرادة عبدلكي ماثلة أمامنا، شكلاً ومضموناً، وإن أصرّ على تقديم المضمون على الشكل ومنحه الأولوية، فهو القائل «المطلوب من الفنان أن يكون إنساناً قبل أن يكون فناناً، وأن يتحسّس مأساته كي يتلمّس مأساة الآخرين». حتى العناصر التعبيريّة الغريبة التي ملأت دوماً لوحات يوسف عبدلكي وأثارت الدهشة وميّزت أسلوبه، فإنّها ذات مضامين إنسانية. هو نفسه يؤكد أنّ ما رسم من سمك وعصافير وسكاكين… إنّما كان يرمز إلى البشر. تلك العناصر والأشكال التي تقتنص الضوء في حيّزها البصريّ، إنّما تعكس روح الفنان ونظرته إلى الألم والفقد والقمع. الأسماك والجماجم والعظام والسكاكين والسواطير …هي مفردات الألم، مادته، الجرح الغائر المفتوح على التعبير. الألم خفيّ وظاهر في الوقت عينه في لوحة عبدلكي. وكلّما ازداد التهديد زاد عدد الكائنات الممسوخة حولنا، مثل أسماك عبدلكي التي عُلِّق حلق بعضها بالسنّارة المعدنية الغليظة، المؤلمة. ما يرسمه عبدلكي يفصح عن كينونته التي تلقي بظلالها الرمادية فيتكشّف جوهرها. يُخضع لوحته لمشيئة قلم الفحم في حركة ذهاب وإياب وخطوط وتمشيحات أفقية، من أسود وأبيض ورماديّ. بالقلم الفحم يشرّح الفجيعة ويؤرّخ للمذبحة. عبدلكي فنان غرافيكي مجلٍّ، لذا فهو يجيد استخدام التضادّ (الكونتراست) بين الأبيض والأسود، ضمن المساحة السوداء التي يوغل إحساسه فيها. يبتعد عن اللون. «الألم يقتل اللون» يقول إدواردو غاليانو. ‏وعبدلكي رسّام وليس ملوّناً. لا يعمل بأسلوب الرسامين الملوّنين الذين يرون العالم عبر تناقضات الألوان الحارة وتلك الباردة، بل يعمل بأسلوب الحفّارين والغرافيكيّين الذين يؤثرون التعبير بالأبيض والأسود، وليس هذا خياراً تراجيدياً بل يوصل اللوحة إلى خيار من هذا النوع. ‏ثمة بطولة مأساوية في لوحات عبدلكي التي تحضر فيها أداة الجريمة مع الضحية، أو أداة الموت مع مادة الحياة، مثلما يمكن أن تُرى قوة الكائن الهامشيّ، الضعيف، في لحظته الأخيرة، ‏إذ يعي أنّه خسر كل شيء، غير أنّه يستجمع قدراته الأخيرة ليفتح عينيه على موته.
خطوطه صارمة، متقشفة، تشي بقتامة الأسى، كأنّ العالم جنازة مديدة، والموت مجلّل بالصمت والعزلة والغضب


‏تصلح القيم التي اشتغل عليها يوسف عبدلكي لكلّ زمان ومكان. هو يحمل الأسئلة الخاصة ذات الطابع العام والشامل حول الوجود والحرية، ولا عجب وسيرة حياته تفيدنا بأنّه نشأ في بيئة مسيّسة، مناضلة، في كَنَفِ أبٍ ماركسيّ مناضل ومشاكس نقل إلى ابنه روح الالتزام والنضال من أجل قيم العدالة والحرية، فاعتُقل أكثر من مرة، وظلّ يُعلي صوت احتجاجه على كل ظلم. خاطبه الشاعر حسان عزّت ذات مرة قائلاً: ‏«أطلق مهاريك في الكون يوسف/ واحتدم بالدمار/ أيّها المزدهي بالرماديّ». غادر عبدلكي إلى باريس في الثمانينيات من القرن الماضي، عقب خروجه من السجن، حاملاً معه ذاكرة القامشلي ورائحة ياسمين دمشق. تلك الرحلة إلى باريس فتحت عينيه على الفن العالمي، فطالت فيها غربته للدراسة ولنيل الدكتوراه في الفنون.
ثمة ما يتقاطع في عالم عبدلكي التشكيليّ ‏مع صرخة غويا، فهو أيضاً منحاز إلى الضحية. يتجاوز الظلم الأزمنة والأمكنة، وأيضاً الرؤى الكابوسية التي تتبدّى في أشكال مسوخ، كالذئب المعدني المتوحّش فوق الطفل من وحي مأساة غزة الراهنة. ضرباته العمودية تحوّل الطبيعة الميتة أو الجامدة إلى أرواح متوثّبة. خطوطه صارمة، متقشفة، تشي بقتامة الأسى، كأنّ العالم جنازة مديدة، فجيعة متناسلة من العتمة، والموت مجلّل بالصمت والعزلة والغضب. يحسن عبدلكي التعامل مع الزمن والحركة والأبعاد في لوحته وينطوي أسلوبه على تحديات تعبيرية، مراعياً المنظور وعمق حقل المشهد. يقف على مسافة من الواقعية والسوريالية والتجريدية، ميّالاً بشكل واضح إلى التعبيريّة، رافضاً مفهوم الطبيعة الصامتة أو الجامدة أو الميتة متسائلاً ذات حين: «طبيعة صامتة؟ طبيعة ميتة؟ أين الموت في كلّ هذه الخلايا النابضة؟ طبيعة ساكنة؟ ‏ليست كذلك أيضاً. حتى جدران الإسمنت ليست ساكنة. ‏طبيعة جامدة؟ ربما، إذا كان المقصود ما يراد رسمه حيّاً». في تقديمه لمعرض يوسف عبدلكي الأخير في غاليري «تانيت»، كتب ألان جوفار: «يدخل عبدلكي في الجمجمة أو السمكة أو في حذاء امرأة، مثلما كان يدخل هنري ميشو في تفاحة. لعلّه مزّق السمكة إرباً قبل أن يعيد تركيبها. إنّه لا يقدم السمكة أو حذاء المرأة أو جمجمة الثور، بل يبعثها. تلك هي قدرة الإدهاش لديه. كلّ شيء محكوم بالموت والتلاشي، ولكن كل شيء يمكن أن يُنقذ كما لو من طوفان». نزعة عبدلكي تحمل قسوة وعاطفة. تشعّ رؤاه (وكوابيسه) وسط الظلمة، يواجه الخضوع والخنوع. كأنّه يرسم في العتمة حيث تلمع حواف الأشياء.

يوسف عبدلكي ـ «طفل من غزّة» (فحم على ورق ــ 112 × 150 سنتم ــ 2023)

لم تفسد السياسة الفن لدى يوسف عبدلكي، ولو أنّها حاضرة في أعماله. ففي سياق عناصر أخرى هي مزيج من تكوينه ونشأته في بيت شيوعي، شرق سوريا (القامشلي) حيث كانت تسود حالة فريدة من التعايش بين قوميّات وأديان واتجاهات سياسية مختلفة. هو ينتمي تشكيليّاً إلى جيل الحداثة السورية التي تضمّ فاتح المدرّس، ولؤي كيالي، ونذير نبعة، والياس الزيات، وميلاد الشايب وآخرين. علماً أنّه ذو مرتبة خاصة وفريدة في عالم الحفر والغرافيك، فضلاً عن فن الملصقات والكاريكاتور والرسوم لكتب الأطفال. أقام العديد من المعارض في العالم العربي، من دمشق إلى القاهرة مروراً بتونس وعمّان والشارقة، ويقتني عدد من المتاحف الأوروبية أعمالاً له كالمتحف البريطاني و«معهد العالم العربي» في باريس و«متحف دينيو-لي بان» في فرنسا ومتحف الكويت الوطني و«متحف عمان للفن الحديث».
ليوسف عبدلكي آراؤه المثيرة أيضاً، مثل فنّه المثير فهو يحرص مثلاً على عدم إقامة معارضه تحت أيّ «رعاية»، إذ يعتبر أنّ «مسألة الرعاية موضة قديمة لا تلائم العصر الحديث، فضلاً عن أنّ كلمة رعاية تعني أنّ جهةً ما تقدم خدماتها للفنان، مثلما كان الأمر في عصر النهضة وما تلاه، وبالتالي يُذكر فضلها في إنجاز هذا العمل أو ذاك. كل هذا غير موجود بالطبع. لماذا؟ لأن الفنان الذي يعمل في مرسمه لسنة أو سنتين وحيداً، منعزلاً، يعاني الأمرّين. ثم يأتي مسؤول ما، فيعتبر أن المعرض تحت رعايته! أيّ رعاية؟! إنها رعاية لصوصية، لذا أرفضها». ومن اقتناعاته الفكرية والأيديولوجية الثابتة «أننا نحيا في عالم حوّل الأفراد إلى فئران، فقد أرغمت الرأسمالية الفرد على البحث عن لقمته وهو مقيّد بالسلاسل والأغلال. تراجعت المشاريع الجماعية، كالأحزاب والنقابات، والكلّ يتقاسم البؤس، في واقع مأساويّ كهذا لا بدّ من أن تطال التأثيرات الرسامين أيضاً والكتّاب والموسيقيين. مهما امتلك الفنان من تصوّرات فانتازية أو جمالية فإنّه في المحصّلة مطحون كسائر البشر المطحونين. من هنا الأهمية الاستثنائية للأحزاب اليسارية، وفي مقدمها الماركسية، فهي قادرة على ردّ الاعتبار إلى العمل الجماعي وزحزحة الظلال المحيقة بالبشر. التناحرات الدينية والمذهبية والقومية تُغرق البشرية في لجّة العبث. المطلوب مشروع للمستقبل يطمح إلى العدالة ويقترب من إنسانية الإنسان»

«أمير غزة الصغير»: حتى 15 شباط (فبراير) ـــــ «مؤسسة دلّول للفن» (الحمرا ـ شارع مدام كوري ــ مبنى البرج الأبيض ـ الطابق الثاني) ـــ للاستعلام: 01/791229