المأزق في البحر الأحمر لا يُعالج بالطلب من سفن إسرائيل المرور عبر رأس الرجاء الصالح، فذلك قد يحلّ جزءاً من ورطة الكيان، لكنه لا يعالج معضلة من يرى نفسه شرطي مرور لمضائق العالم، والقوة البحرية الكونيّة المهيمنة. وما قد يجلب صداماً يمنياً - أميركياً، هو شعور الدولة العظمى بأنها رئيسة غير محترمة وغير مسموعة الكلمة، في منطقة اعتقدت أنها قضت على الأحرار والمتمردين فيها.
أولاً: صورة أميركا لنفسها
لسنا بحاجة إلى مزيد من التأكيدات بأن غرفة أميركية - إسرائيلية واحدة، ولا أقول مشتركة، تحمي تل أبيب، وتقود الحرب على غزة والضفة وفيهما، لكن مواجهة أميركا لـ«أنصار الله» في البحْرَين الأحمر والعربي، أوسع من قضية إسرائيل وأمنها، وتتّصل بما تحسبه أميركا لنفسها كقوة بحرية وجوية لا تُقهر أولاً، وكشرطي للعالم يتحكم بمسار اللعبة ثانياً. فكيف لصنعاء مصارعة تينك النظريتين، اللتين اعتقدت أميركا رسوخهما، وخصوصاً في «ملعبها» العربي، فوق تحدي «محور المقاومة» لعقيدة أميركا الشرق أوسطيّة، القائمة على الضمان المطلق لأمن الكيان الإسرائيلي، والذي يعني بكل وضوح أن لا أمن للفلسطينيين والعرب والعجم إلا عاشراً.

ثانياً: الفروق السبعة
في محاولة للبحث عن فروق بين موقفَي واشنطن وتل أبيب، فإنك تكون بصدد ما يشبه التمرين الطريف لحل أحجية ذهنية أو بصرية، عبر رسمتين تكادان تكونان طبق الأصل. نعم، ستجد «فروقاً سبعة» بين موقفَي جو بايدن وبنيامين نتنياهو، وبين البنتاغون ومجلس الحرب، وبين «الموساد» و«السي آي إيه»، والكنيست والكونغرس، و«فوكس نيوز» المؤيدة للجمهوريين والقناة الرابعة عشرة اليمينية، و«نيويورك تايمز» المؤيدة للديموقراطيين و«هآرتس» اليسارية، لكنها ليست إلا «فروقاً سبعة». فالانسجام تام بشأن الأهداف الرئيسية، والتفصيلية للحرب، والمتمثّلة في استعادة الكيان لردعه المهدور، وهدر دم «حماس»، والقضاء على الحياة في غزة، وتمكين إسرائيل من القضاء على حلم الدولة الفلسطينية. والهدفان الأخيران غير معلنين. أما الفرق المدّعى بينهما حول اليوم التالي، فيتيح فرصاً عظمية لنقاش لا ينتهي، تلهي عما هو أهم وأولى.

ثالثاً: استراتيجية أميركا
إسرائيل هي الدولة الوظيفية الصغيرة، والمحميّة الأميركيّة المعلنة، حتى بعد انتهاء المحميّات، كما عرفناها في النصف الأول من القرن العشرين، في ذروة الاستعمارَين الفرنسي والبريطاني في المنطقة، لكني لا أقول المحمية الوحيدة، ذلك أن ثمة محميات عربية معروفة ومشهورة، حتى وهي رسمياً دول مستقلة، ولها مقاعد في الأمم المتحدة وأعلام وقنوات تلفزيونية.
ما سبق لا يجب أن ينسينا كون أميركا أكبر اقتصاد عالمي، وأكبر قوة عسكرية، ولا يصحّ حصر حركة بوارجها وحروبها الناعمة والخشنة، القائمة أو المرتقبة، الممتدّة من فنزويلا إلى أوكرانيا إلى تايوان إلى إيران إلى فلسطين، بمحميّتها الصغيرة. وما يجري في البحر الأحمر أكبر من تمكين الكيان من قتل ما أمكن من بشر، وهدم ما أمكن من حجر.
مواجهة أميركا لـ«أنصار الله» في البحْرَين الأحمر والعربي أوسع من قضية إسرائيل وأمنها


رابعاً: القوة البحرية
تحسبُ أميركا نفسها القوة البحريّة العظمى، التي هزمت الاتحاد السوفياتي، الذي مثّل نظرية «القوة البريّة» الجيوبوليتيكية، بميزانية عسكرية باذخة، بلغت 858 مليار دولار، مقارنة بميزانية الصين البالغة 224 مليار دولار، وميزانية روسيا المقدرة بـ 111 مليار دولار. وتملك واشنطن 11 حاملة للطائرات، ونحو 800 قاعدة عسكرية خارج حدودها. كما تحسبُ واشنطن نفسها بمثابة «شرطي مرور» معني بتنظيم سير السفن في محيطات وبحار ومضائق العالم، ليس في شمال الكرة الأرضية وحسب، وإنما في جنوب الصين، كما في الشرق الأوسط، حيث عشرات الآلاف من الجنود المنتشرين في قواعد أنجرليك (تركيا) والظفرة (الإمارات) والجُفير (البحرين) والعُديد (قطر) وعريفجان (الكويت)، وغيرها، العلني والسري، ممّا يصعب حصره. وإضافة إلى النموذج الاقتصادي والسياسي البائس في بلاد السوفيات سابقاً، فلا أدري إن كان انهيار الاتحاد الضخم له علاقة بكون تلك البلاد «قوة برية» من ناحية، واكتفائها من الطاقة، نفطاً وغازاً، والذي يجعلها كسلى في التمدّد إلى ما وراء البحار، من ناحية أخرى، لكن سبق لقوى بحرية كبرى الانهيار، وليس آخرها الإمبراطورية البريطانية.

خامساً: غلق باب المندب.. بل غلق هرمز
في قيام أميركا بتفعيل مدمّراتها وطائراتها في البحر الأحمر، معانٍ تتجاوز ما تمثّله «أنصار الله» من خطر على الكيان. وهذا وحده موجب للتحرك الغربي، لكنّ تحدي «الأنصار»، بمسيّراتهم وصواريخهم، الزهيدة الكلفة، لأميركا وجبروتها وحاملات طائراتها العائمة والثابتة، يمثّل بروفا لما يمكن أن يحدث في «مضيق هرمز»، إذا اشتد أوار المعارك، وهذا ما تراه أميركا موجباً لإعادة الاعتبار إلى مكانتها شرطياً تُحترم صفارته، التي أعطاها اليمني أذنه الطرشاء. ما يؤكد ذلك، تنظيم كوريا الجنوبية مناورة عسكرية، وفق فرضية شن جارتها الشمالية حرباً خاطفة تحتذي فيها نموذج «طوفان» الأقصى. السعودية قلقة من قيام «أنصار الله» بعملية شبيهة، إذا ما خرجت سكة التسوية عن مسارها، وروسيا قلقة من نموذج أوكراني يقلّد عملية 7 أكتوبر. ورغم أن «حزب الله» يسرّب أن خطة المظليّين باتت مكشوفة، فلا يمكن للإسرائيليين الاحتفال والرقص في الجليل أو على الحدود الشمالية في يوم الغفران المقبل، فلا أحد يعرف ماذا يخبئ الفصيل المقاوم.

سادساً: تحييد «الفرقة 153»
تدّعي أميركا أن مهمة حماية الملاحة في البحر الأحمر تمثّل قضية دولية، وليست أميركية، ونراها تدعو الصين ودول العالم إلى المساهمة معها في ذلك. ولم يجد طلبها صدى عملياً حتى لدى بعض حلفائها. فدكّ إسرائيل لغزة منح صنعاء شرعية الحركة لمحاصرة الكيان. يقرّ بذلك حتى خصوم «الأنصار» في المنطقة.
والحقيقة أن إنشاء تجمع بحري جديد، يحمل اسماً براقاً «حارس الازدهار»، كعادة أميركا التي سمّت غزو العراق «تحريراً»، يعني تحييد «الفرقة 153»، المكونة من 38 دولة، والمعنية بأمن البحر الأحمر، أو يعني تحييد ثلاثة أرباع أعضائها، الذين قد يجدون الحلّ في إيقاف حرب غزة، وليس في مواجهة مفتوحة مع صنعاء.

سابعاً: أميركا ليست حَكَماً
يمكن القول إن الحرب الكبرى غير مرجّحة، لكن التوتر لن يفارق المنطقة، فواشنطن تريد لصفارتها أن تُحترم من طرف صنعاء، التي أعلنت أنها لا تعترف بالأميركي حَكَماً. ثم إن إيجاد حلّ في غزة صعب المنال، إلا بصفقة شاملة فلسطينية - صهيونية، ذلك أن وقف إطلاق النار يمثّل انتصاراً للمقاومة، فيما تبادل الأسرى بالتقسيط يعدّ بمثابة إعلان من قبل يحيى السنوار بالموافقة على تصفية «كتائب القسام»، في اليوم التالي لانتهاء عملية التبادل.