بروز مسألة الملاحة في البحر الأحمر، بعد استهداف «أنصار الله» المتكرّر للسفن الإسرائيلية، أضفى على الحرب في غزة، بُعداً جديداً. الخطورة على الملاحة والتجارة الدولية هنا، لا تأتي من نشاطات «أنصار الله» العسكرية إلّا بمقدار معيّن، حيث الضرر لا يصيب غالباً إلا السفن المتجهة إلى إسرائيل، وهو ما أوضحته بيانات متعدّدة للحركة، ردّاً على الادعاءات الأميركية وتعليق شركات الشحن المالكة للسفن رحلاتها التجارية عبر البحر الأحمر. ما يحصل حالياً هو أثر جانبي للحرب، ولكنه كبير إلى حدّ جعلِها تتجاوز البعدين العسكري والجيوسياسي، إلى نظيرهما الاقتصادي.
الحاجة إلى الفاعلية الاقتصادية في مواجهة إسرائيل
حتى الآن، اقتصرت الآثار الاقتصادية السلبية للحرب على نسب النموّ والعجزين التجاري والمالي في إسرائيل. الطابعان المحلي والدولي للاقتصاد الصهيوني أبقيا تلك الآثار عند حدّ معيّن، في ظلّ غياب عنصر الاندماج في الإقليم عن حركة التبادلات والتجارة الإسرائيلية، واقتصارها على الدول خارجه. التأثير على الاقتصاد الفلسطيني أيضاً كان شبه غائبٍ عن المتابعات الاقتصادية، ليس لانعدامه مع كلّ الدمار الحاصل في البنية التحتية في قطاع غزة، بل لطبيعة الاقتصاد هناك، ولا سيّما في الضفّة، حيث النشاط الزراعي والصناعي والتجاري محدود ومقيَّد بإجراءات الاحتلال، وما يُنتَج فعلياً منه يصطدم بالطابع الريعي للاقتصاد، المتّكل بشكل كامل على المساعدات الأوروبية. غياب الربط بين العنف الإبادي الصهيوني المُمارَس على القطاع، والنشاط الاقتصادي داخل فلسطين المحتلّة بمجملها، أتاح للقوى التي تدير الحرب حريّة ممارسة الضغوط الجيوسياسية، خارج أيّ اعتبارٍ يتعلّق بمصالحها الاقتصادية. وقد ساعَد صِغَر حجم الاقتصاد الفلسطيني، وغياب البنية الصناعية والتجارية والخدمية عنه، في تصعيد الحرب إلى حدّ تدمير البنية التحتية والخدمية لغزة بالكامل، من دون أن تكون لهذا التدمير أيّ عواقب مباشرة على الاقتصاد الإسرائيلي، سوى فُقدان العمالة التي كانت تأتي إليه من القطاع.
هذا لا ينفي أثَر الحرب الكبير على اقتصاد العدو، ولا سيّما لجهة وصول صواريخ المقاومة إلى العمق الصهيوني الذي يتركّز فيه النشاط الاقتصادي. غير أن إعاقة آلة الحرب بالكامل تحتاج إلى فاعلية أكبر من ذلك، حتى يصل تأثيرها إلى تهديد سلاسل الإمداد التي تغذّي شرايين حياة الاقتصاد هناك، وخصوصاً عبر البحر. ومن هنا، نفهم أهمية وجود فاعلين في الإقليم، لا يساندون المقاومة في أعمالها العسكرية فقط، بل يزودونها أيضاً بالفاعلية الاقتصادية التي تفتقر إليها جزئياً، في مواجهتها حرب الإبادة التي تشنّها الدولة الصهيونية عليها.

أثَر انقطاع سلاسل التوريد على الاقتصاد الصهيوني
المسانَدة التي تقدمها «أنصار الله» حالياً، عبر الانتقال بالدعم من مرحلة التصعيد العسكري بالمسيّرات والصواريخ الباليستية، إلى مرحلة احتجاز السفن التجارية كافة المتجهة إلى إسرائيل، هو بمثابة تعويض عن غياب الفاعلية الاقتصادية لدى المقاومة الفلسطينية، بمعظم أجنحتها. صحيح أن الضرر واقع أصلاً بالاقتصاد الإسرائيلي، جرّاء عوامل متداخلة في الحرب، ولكنه ليس من النوع الذي يجبر إسرائيل على التراجع تحت ضغط الركود أو الانكماش الحاصلين في الاقتصاد لديها. هذه عوامل بنيوية في أيّ اقتصاد، وحصولها لا ينتظرُ حرباً حتى يقع، وبإمكان اقتصاد مرتبط عضوياً بالغرب مثل الاقتصاد الصهيوني تجاوزها، كما تجاوز من قبلها أزمة «كورونا»، أو حتى أزمة التضخّم في أسعار الطاقة والغذاء العالمية، عقب حرب أوكرانيا.
طبيعة القيادة الأميركية للحرب تجعل، بدورها، من أيّ أثر اقتصادي عكسي في الإقليم، عاملاً مساعداً


ما سيُجبِر الصهاينة على التفكير مليّاً في مراجعة خطط الحرب، إلى حدّ وقفِها، إضافة إلى العاملين الأميركي والداخلي الخاص بالصراع السياسي على السلطة، هو حصول تأثير عكسي على اقتصادهم، بحيث لا يعود الشلل مقتصِراً على الاقتصاد الفلسطيني، كما هو حاصل الآن. هذا لن يتحقّق إلا عبر حرمانهم من الموارد الأساسية التي تغذّي الدورة الاقتصادية، وعلى رأسها سلاسل الإمداد والتوريد. حين يحصل ذلك، لا يعود بإمكان البنك المركزي الإسرائيلي فعل شيء حيال التضخّم في الأسعار، والذي سيصِل إلى مستويات قياسية، في حال توقُّف المعروض من السلع الأساسية الآتية عبر البحر، على نحو كبير. وإلى التضخّم، ستكون ثمّة مشكلة كبيرة في تكلفة الإنتاج، بالنسبة إلى الصناعيين والمنتجين داخل الكيان، ما سيخلق بدوره، ليس فقط أزمة تضخّم، بل أيضاً أزمة عمالة وأجور، حتى مع عودة جنود الاحتياط جزئياً من ميدان القتال في غزّة. انقطاع سلاسل التوريد بالمعنى المتقدّم، سيصيب الدورة الاقتصادية الإسرائيلية، بمجملها، بالشلل، الأمر الذي يجعل تأثيرَه يتجاوز البعد الاقتصادي، حيث إجراءات البنك المركزي أو وزارات المالية والاقتصاد والصناعة، إلى المستوى السياسي، المنخرط عبر مجلس الحرب، في حملة الإبادة على غزة.

إذكاء مسار إنهاء الحرب
طبيعة القيادة الأميركية للحرب تجعل، بدورها، من أيّ أثر اقتصادي عكسي في الإقليم، عاملاً مساعداً، إن لم يكن على إيقاف الحرب تماماً، فأقلّه على التخفيف من حدِّتها، كما يطرح الأميركيون حالياً في مشاوراتهم مع قادة مجلس الحرب الصهاينة. صحيح أن العلاقة بين الأمرين ليست قائمة فعلياً، ولكن ما يحصل في البحر الأحمر من نشاط مساند لغزة، بقيادة «أنصار الله»، يجعل من أيّ عامل جيوسياسي عاملاً اقتصادياً، بالضرورة. أهمية ما قامت به الحركة، يكمن في هذا الربط الذي كان غائباً قبل تعطيل حركة السفن، بين البعدين الجيوسياسي والاقتصادي للمواجهة. المقاومة، عبر صمودها الكبير واستمرارها في الإشغال الناري، حتى بعد مرور شهرين على التدخّل البرّي في القطاع، كانت قد أوصلت القيادة الأميركية للحرب إلى قناعة باستحالة الحسم مع هذا الشكل من الأداء العسكري الصهيوني. وهو معطى عسكري وجيوسياسي ساعد، ولا سيّما بعد انعقاد الهدنة وحصول التبادل، على إنضاج شروط الانتهاء من المرحلة النشطة للحرب، والتي شهدت أغلب أعمال التدمير والإبادة والقتل. على أن الإقرار الكامل باستحالة هزيمة المقاومة لم يحصل، إلا مع بروز مسألة تعطيل حركة السفن من إسرائيل وإليها. التصعيد الأميركي هنا، عبر تشكيل تحالف «حماية الازدهار» البحري في مواجهة «أنصار الله»، لا يعكس فعلياً طبيعة المأزق الذي تواجهه حالياً قيادتا الحرب في واشنطن وتل أبيب، مع انتقال الصراع من الشقّ العسكري والجيوسياسي، إلى نظيرهما الاقتصادي.

خاتمة
الحال أن هذا السياق للمواجهة هو الوحيد الذي لا تستطيع إسرائيل تحمّله، ليس على المدى البعيد فقط، بل أساساً على المدى القريب. اقتصادها الذي عجز عن الاندماج في الإقليم طوال عقود، لن يصمد كثيراً أمام ذلك الحصار البحري الذي يُفرض عليها للمرة الأولى في تاريخ صراع العرب والفلسطينيين معها. وهو ما يضع المسألة برمّتها خارج إطار أزمة الملاحة التي تذرّع بها الأميركيون لتشكيل «قوة الحماية» البحرية، متعددة الجنسيات. الأزمة قائمة فعلاً، وثمّة شركات شحن عالمية عديدة أعلنت إيقاف رحلاتها التجارية عبر البحر الأحمر، لكن المسألة لا يجب النظر إليها من باب الضرر الذي ألحقه خيار «أنصار الله» البحري بشرايين التجارة الدولية عبر باب المندب، بل من الوجهة التي تعتبر هذا الحصار ردّاً بأثر رجعي على الحصار الإسرائيلي المضروب على القطاع، منذ عام 2007.
التجرّؤ على شلّ حركة التجارة من الكيان وإليه، هو بمثابة ردّ فعل اقتصادي، على نطاق دولي، على فعل ليس بهذا الحجم اقتصادياً، ولكنه محصّن جيوسياسياً من الغرب، إلى حدٍّ يجعل التجرّؤ على كسره أو تخفيفه أقرب إلى أفعال المُروق التي يَسِم بها الغرب «الحركات الإرهابية». ذلك هو المغزى الفعلي من تشكيل «التحالف الدولي لحرية الملاحة» بقيادة البنتاغون. فلو اقتصرت مساندة «أنصار الله» لغزّة على إطلاق المسيّرات والصواريخ الباليستية في اتجاه إيلات وسواها من المنافذ البحرية الصهيونية، على فداحة الخسائر التي تلحقها بقدرة الردع الإسرائيلية، لما حصل كلّ الاصطفاف الحالي في مواجهتهم، ولكانت وزارة الدفاع الأميركية اكتفت بما تقوم به عادةً قوّاتها البحرية المرابطة في الخليج من مناورات أو إجراءات ردع للتصدّي للخصوم في الإقليم. الحيرة الأميركية تجاه «أنصار الله»، بالمعنى المتقدّم، هي تماماً كحيرة السعوديين من قَبلهم، حيال فاعل إقليمي جديد وغير تقليدي، الأمر الذي يصعّب ليس فقط مواجهتهم في البحر، بل أساساً القدرة على التحكّم بمآلات المواجهة، حين تنتقل إلى الاقتصاد السياسي للحرب، وتهدّد بشلّ الاقتصاد الصهيوني، ومعه حركة الملاحة الدولية من الكيان وإليه.