كانت قضية فلسطين، بفعل موقع فلسطين الجغرافي، والاستعمار الإحلالي فيها، عنواناً أساسياً للهوية العربية الجامعة، ومفهوم الأمن القومي العربي. التخلّي عن هذه القضية بشكل رسمي من قبل بعض الأنظمة العربية، للانضواء ضمن شبكة المصالح الغربية، أو تعزيز موقعها فيها، جاء مصحوباً بنزعة وطنية انعزالية، تستبدل الأمن القومي العربي بالأمن الوطني (أمن النظام)، وتشدّد على هوية قُطريَّة، تتمحور غالباً حول تاريخ منقرض يعيش في المتاحف، وعبادة الزعيم الفرد، والتناقض مع «الآخر» العربي والتمايز عنه، باعتباره مجرد حاقد على التاريخ العظيم، أو واقع الرفاه وخطط المستقبل المذهلة.لم يقف ضرر الوطنيات الانعزالية عند الإضرار بفلسطين، والأمن القومي العربي، بتكريس الهيمنة الغربية في المنطقة، وإنما امتدّ الضرر ليشمل الدولة الوطنية نفسها، فقد فاقم التخلّي عن شرعية فلسطين من أزمة شرعية هذه الدولة، وتبيّن أن الهويات القُطرية ليست سوى قشرة تغطي سيادة الهويات الفرعية، الطائفية منها والعشائرية، وتسبّبت الإخفاقات على أنواعها في تغذية الانقسامات الداخلية، ولم يحقق النموذج الانعزالي وعوده بالازدهار، وقاد كل هذا إلى مزيد من الهشاشة الداخلية، وضعف التأثير إقليمياً.
بعد السابع من أكتوبر، قدّم اليمن نموذجاً معاكساً. في سياق استمرار التخلي العربي الرسمي عن فلسطين، أو التواطؤ ضدها، تحركت حكومة صنعاء لتكسر قيود الانعزال في إطار الحدود القُطرية، وجمعت بشكل فريد بين نزعة ثورية ضد الحدود والاستعمار المتجسد في إسرائيل وداعميها، وخطاب دولة تقوم بمسؤوليتها في تفعيل مفهوم الأمن القومي العربي. الخطاب المعبّر عن الفعل الميداني اليمني المؤثر في معركة غزة كان بدوره مؤثراً ومهماً، إذ جمع هذا الخطاب بين رفع شعار الانتصار لمظلومية أهل غزة، والاستجابة لنداءات أحرار اليمن والأمة. تمكّن هذا الخطاب من الصعود بالهوية الوطنية إلى معنى عربي جامع، وتعامل مع اليمنيين كجزء من أمّة تتعرض للعدوان، وتؤدي واجبها في التصدي له.
هذه الثورة ضد الانعزالية القُطرية كانت ترياقاً فعّالاً لسموم الانقسامات التي أنتجت الحرب الأهلية


هذه الثورة ضد الانعزالية القُطرية كانت ترياقاً فعالاً لسموم الانقسامات التي أنتجت الحرب الأهلية في اليمن، فتوحّدُ المتخاصمين حول الفعل اليمني المساند لغزة، والدعم من غالبية الأطراف والنخب السياسية اليمنية لتحرّك حكومة صنعاء، قدّمَ فرصةً تاريخية لمخرجٍ من الحرب الأهلية. قامت حركة «أنصار الله» بالدعوة إلى التوحّد على المستوى العربي، فقال مسؤولوها صراحةً إن الخسارة في الحروب الأهلية العربية أكبر من أي خسارة في مواجهة العدو الصهيوني، ودعوا إلى تجاوز الخلافات وعقد المصالحات والالتفات إلى المعركة الكبرى مع الصهاينة وداعميهم. أعطت هذه الدعوة صدقية عالية لخطابهم في الداخل اليمني، وتقديراً عالياً لهم على المستوى العربي.
في هذا النموذج اليمني، يبرز عمل الجمهور اليمني بوصفه العمل الشعبي العربي المؤثر في المعركة، فلم تكن الأزمات الاقتصادية والمعيشية، أو التهديد الأميركي ثم العدوان، عائقاً يمنع هذا الجمهور من الخروج والتظاهر دعماً لتحرك حكومة صنعاء. عزلَ الجمهورُ اليمني، بالتفافه حول خيار إسناد غزة عسكرياً، الأطرافَ السياسية اليمنية التي اختارت الانحياز للغرب الاستعماري والعدوان على اليمن. ولم يتعامل هذا الجمهور، كما حكومة صنعاء، مع أهل غزة كـ«آخر» يستحقّ التعاطف، وإنما «أنفسنا» التي ندافع عنها.
هذا التجسيد العملي للعروبة، ولمجابهة الاحتلال الصهيوني بوصفه خطراً على الأمّة كلها، يفسّر احتفاء أهل غزة والجمهور الفلسطيني والعربي بالدور اليمني في المعركة. حين يقول مسؤولون يمنيون إنهم مستعدون للذهاب حتى النهاية نصرةً لغزة، ولو لم يبقَ منهم أحد، أو أن نفوسهم ترتاح وينزاح خجلهم حين يُقصفون كما يُقصف أهل غزة، فإن لهذا وقعاً كبيراً في نفوس أهل غزة وعامة الجمهور العربي، وخاصة أنه خطاب مصحوب بفعل ميداني كبير، له تأثيره على الصهاينة ومن يدعمهم.
أثبت النموذج اليمني في نصرة غزة أن تحطيم الحدود القُطرية، وكسر الحالة الانعزالية، طوق نجاة للدولة العربية من أزمة شرعيتها، وطريق أساسي للحصول على وزن نوعي إقليمياً، كما أن الربط بين الوطني والقومي هو الأقدر على معالجة الانقسامات الداخلية. إهمال شرعية فلسطين والأمن القومي العربي ليس طريقاً للازدهار.

* كاتب عربي