ما زالت الولايات المتحدة تشجع إسرائيل على المضي في استئصال ما أمكنها من فعاليّة «حمساوية»، وتحطيم ما تبقّى من غزة باعتبارها بيئة «معادية وإرهابية»، والاستمرار في خوض معركة رمادية – وليست مفتوحة - مع إيران، على امتداد المنطقة وليس في سوريا فقط، إضافة إلى أخذ مزيد من الوقت في تقليب الخيارات في جبهتها الشمالية مع «حزب الله»، والتي يشترك في شِقّ «الجزرة» من عناصرها، المبعوث الأميركي أموس هوكستين. بيد أن غرفة المقاومة تعمل على مواجهة الغرفة الأميركية، وقد فُعّلت للمرة الأولى، على هذه المساحة الشاسعة من الإقليم، نظرية وحدة الساحات.
أولاً: الأدوار الأميركية
إضافة إلى تقديمها السلاح والجهد اللوجستي والاستخباراتي للعمليات العسكرية الإسرائيلية على امتداد المنطقة، تتولّى واشنطن بنفسها الأمور الآتية: استهداف الحالة اليمنية بسلاح أميركي مباشر، ضبط مشاعر الدول العربية القلقة من خطأ الحسابات الأميركية، منع صدور قرارات أممية بوقف إطلاق النار، إيجاد مخارج لإسرائيل في حال تقرر أن الطريق وصل إلى نهاية مسدودة، وتولّي ملف العلاقات العامة دفاعاً عن إسرائيل التي عليها الاستمرار في إنجاز مهمة الإبادة الجماعية، بما يتضمن بالضرورة تضخيم المسافة بين واشنطن وتل أبيب، على نحو يسمح بالمناورة وتبادل المراكز.

ثانياً: «حماس» واليمن في محور المقاومة
لا نعرف بالدقة متى تشكّل محور المقاومة على النحو الفريد الحاصل حالياً؛ فلا توجد له أمانة عامة، ولم نشاهد قادة دوله وفصائله مجتمعين معاً. لكن فجأة شاهدناه واقعاً على الأرض، وقد انضم إليه عضوان جديدان: الأول، دخل برجل واحدة، وهو «حماس»، وهذا عنصر إيجابي بل وحاسم، مقارنة بما كان عليه الحال لحظة 2012، حين عُزل الفصيل الحاكم في غزة عن بحره وشعاراته المؤمنة بالكفاح المسلح سبيلاً لتحرير القدس والأقصى. ومن دون عضوية «حماس»، فإن إرباكاً لا يستهان به كان سيواجه المحور، بالنظر إلى أن فلسطين هي بوصلة ذلك الحلف، الذي يرى إسرائيل قاعدة أميركية، وهزيمتها أهمّ تجلّ لتضعضع المشروع الأميركي. وفي هذه الحرب، فإن تعزيز «حماس» كقائد للمشهد، وهي هكذا بالفعل، هدف مهم للمحور. ومن هنا، ليس صدفة أن نرى حضوراً إعلامياً متواضعا للأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي»، زياد النخالة، على الرغم ممّا تقدم تلك الحركة، المنخرطة بكامل جوارحها في محور المقاومة، من أداء لافت في الأشهر الثلاثة الأخيرة.
أما العضو الجديد النوعي الذي كسبته إيران ومحورها، والذي لم تكن عضويته تخطر على البال، فقد تمثل في انضمام اليمن، منذ أيلول 2014، لحظة دخول حركة «أنصار الله» العاصمة صنعاء من دون إراقة دماء، ليمثّل إضافة غير عادية تتجلى نتائجها المبهرة يوماً بعد آخر، بما في ذلك إقناع السعوديين بالواقع الجيوسياسي لإيران.
محور المقاومة ازداد رسوخاً حتى في ظل الحروب على دوله وفصائله


ثالثاً: وحدة الساحات
فعّل محور المقاومة، على مدى الأيام الماضية، نظرية وحدة الساحات، على نحو ناجع إلى حد كبير، وغايته الرئيسة في ذلك، مساندة جبهة غزة والوصول إلى وقف نهائي للنار، والحفاظ على النجاح الذي حققته «حماس» وشركاؤها في 7 أكتوبر. والتجربة ناجحة، لأنها لم تجرّ المنطقة برمتها إلى حرب كبرى، ولم تحوّل حرب التحريك هذه إلى حرب تحرير لم يحن وقتها، وحافظت على عقيدة الدفاع - وليس الهجوم - التي يؤمن بها المحور منذ انطلاقته - وهي عقيدة قابلة للتغيير -، وكذا من دون الإخلال بالتعقيدات الداخلية لكل عضو من أعضائه، ما منع انفجار الأوضاع المحلية في غزة أو العراق أو لبنان أو اليمن أو إيران، ضد الحكومات القائمة، وفقاً للسيناريو الذي ترجوه أميركا.

رابعاً: جنوب لبنان... الفرضيات الإسرائيلية
ترى إسرائيل «حزب الله» قوة متنامية، وعليها دفع ثمن مجابهته، عاجلاً أم آجلاً، فيما تأخير المعركة أو إدارة الصراع معه إلى زمن أطول، قد لا يؤدي إلّا إلى جعل الخسائر الإسرائيلية، البشرية والمادية، مضاعفة في أي حرب مؤجلة. صحيح أن الحفاظ على قواعد اشتباك في جنوب لبنان قد أمّن نوعاً من الاستقرار على مدى الثماني عشرة سنة الأخيرة، بيد أن القوة التسليحية لدى الحزب اللبناني باتت فائقة، عدّة وعتاداً، ولا يمكن توقع حجمها بعد سنوات. على أن المشكلة التي واجهت إسرائيل منذ 2006 وحتى الآن، ودفعتها إلى تفادي الحرب، خشية أن يكون ردّ «حزب الله» صاعقاً، ما زالت قائمة. وهذه المشكلة لا تعالَج بتسليم لبنان مزارع شبعا، فذلك لن يقود إلا إلى تعزيز علاقات «حزب الله» مع سوريا وإيران واليمن الذي يتغنى السيد حسن نصر الله به وبمواقفه وقيادته على نحو غير معهود.
إذاً، في ظل الردع المشهود الذي يملكه لبنان، والذي يفترض أن يرجّح استمرار المستوى المحسوب من الصراع، فإن مخاوف الكيان من 7 أكتوبر آخر، وشعوره بأن عليه فعل شيء إزاء نموذج تمتدّ ثقافته المقاومة إلى أوسع من حلفائه، قد يدفع الكيان إلى خوض معركة «وجود» أخرى، سيكون فيها ردّ «حزب الله» من دون ضوابط ولا قيود.

خامساً: الرياض... الموقف من استهداف المقاومة
لن تكون الرياض مرتاحة لخروج «حماس» و«حزب الله» وصنعاء وطهران منتصرين من هذه الحرب، فيما هي تأمل أن تنتهي، إن انتهت، وقد أُدمي كلّ أطرافها. وليس من المبالغة القول إن إشعال أميركا وإسرائيل مزيداً من النيران في جسد المحور المقاوم سيبثّ علامات الغبطة في المحور السعودي، الذي يرجو أن تزداد وتيرة استهداف الوجود الإيراني في سوريا. ويضاف إلى ما تقدّم، أن السعودية لا تزال بعيدة عن التورط في الحرب على نحو مباشر؛ إذ فيما تستهدف واشنطن، صنعاء، لم تطأ الصواريخ اليمنية الرياض؛ وبينما تدك إسرائيل، غزة، حافظت الرياض على علاقات مع السلطة الفلسطينية، وتفادت الاشتباك مع «حماس»، ونسّقت علاقاتها مع المحور التركي - القطري، وزادت علاقتها رسوخاً مع واشنطن. وفي المقابل، تعمل إيران على إبقاء السعودية في هذه المنطقة الحيادية. لكن علينا التذكر أن المملكة التي كانت قد غذت حروب المنطقة، فإنها اكتوت بنيرانها مطلع التسعينيات وفي ما بعد 2015، في حين ثبُت أن إهمالها للملف الفلسطيني كان خطأ بيّناً. أما محور المقاومة، فقد ازداد رسوخاً حتى في ظل الحروب على دوله وفصائله.