يُستفاد تعريف المقاومة الاصطلاحي من اشتقاقها اللفظي والتداول العربي ويبيح لنا الجمع بين معانٍ أربعة أساسية هي: القوم والقيام والقيمة والقومة. ذلك أنّ المقاومة ينهض بها قومٌ مخصوصون، وهؤلاء القوم يدفعون شرَّ قائمٍ بين أظهرهم ويتوسّلون في ذلك بقيم عاملين على تحقيق قومة مخصوصة، فتكون في القومة عبارة عن نهوض بالقيم. ومن هنا فالمقاوم عموماً يتولى تجديد الوعي بالقيم، والمقاوم الإسلامي يتولّى تجديد الوعي بالقيم الإلهية الإسلامية، إذ تمكن الأمة من قومة كاملة تدخل بها عهد الانتصار على قوى الظلم والشرّ.
كان غسان كنفاني أوّل من استخدم مصطلح أدب المقاومة (وكالة «غيتي»)

يصدق هذا التعريف على المقاومة ضدّ الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لفلسطين، وإذا كان الحدّ وتعريف الأشياء من مهمات الفلسفة، فإنّ المقاومة في النظر الفلسفي فعلٌ ضروري للحياة وللحرية. الأجسام لا يقوم عيشها بلا مقاومة، والنفوس لا تحصل كمالاتها بلا مقاومة. وعليه كان الجهاد في محلّين دفاعاً عن النفس وتزكية لها لتبلغ مقام أحسن تقويم. تسعى المقاومة إلى تحقيق الذات في الوجود، ولذلك تمثّل تجربةً عالية القيمة للشعر، لأنّ الشعر إفصاح عن التجربة، وهو أعلى تعبير عن حركة الروح الإنسانية. ولذلك يتعالى هذا الإفصاح عن الذات في تجربة المقاومة، ويكون الشعر لسان حالها والناطق بأسرارها، والشارح لقيمها والباعث على نهضتها وقيامها. وقد عرفت الشعوب هذه العلاقة بين الشعر والمقاومة، حتى سعى النقد الأدبي إلى إدراج شعر المقاومة كنوع أدبيّ له كلّ خصائص التعبير عن الروح الإنسانية في تجربتها المخصوصة، وفي وصف حالها لارتباطها بقضية فلسطين. ولعلّ تجربة شعر «الدفاع المقدّس» في إيران صورة مثالية لهذا النمط من الشعر، وخصوصيّته تستحقّ دراسةً مستقلة. وكذلك في الأدب العربي، يعتبر شعر المقاومة لصيق الصلة بالقضية الفلسطينية لأنّ احتلال العدو الصهيوني لفلسطين وطرد أهلها والاحتلال الاستيطاني المدعوم من عالم الاستكبار والاستعمار الغربي الأوروبي والأميركي توجب فعل المقاومة. وكانت تجربة هذا الفعل المقاوم جديرة أن تنتج شعراً للمقاومة في الأدب العربي والإسلامي. وكان غسان كنفاني أوّل من استخدم مصطلح أدب المقاومة في العربية لارتباطها بالمقاومة الفلسطينية على ما ذكرت.
لقد جربنا في «جائزة فلسطين العالمية للآداب»، ومقرّها في طهران العزيزة، متابعة الإنتاج الأدبي عن فلسطين والقضية الفلسطينية، وتبيّن أنّ الإفصاح الشعري كما غيره من أنواع الأدب الأخرى يرافق حركة المقاومة ويمثّل لسان حالها الناطق الصادق كأنّه ترجمانها وصوت عشقها المتعالي. لنأخذ شعر محمود درويش على سبيل المثال لا الحصر. نحن نقرأ في شعر محمود درويش السرّ الفلسطيني، إذ يكشف الباطن عن نفسه بكامل تفاصيله في الوقت الذي نجهد فيه كي نلاحق الأحداث في أكثر الظروف حرجاً والمتغيرات استباقاً. هل لأنّ محمود درويش شاعر مبدع يغني تاريخ قضية شعب وتاريخ نضاله؟ أم لأنّ هذه القضية المقدسة التي تعتبر من أكثر قضايا الإنسان عدالة خلال قرنين من عمر العالم المعاصر، لا تقبل بالكشف عن أسرارها إلا بالوصول إلى أقصى المسافات، إلى الإبداع الذي يولده الشعر ويستلزمه، فلا يمكن التعبير عن الحقيقة إلا بواسطة أجمل الفنون؟ هل تصبح القصيدة في ما نسمّيه أدب المقاومة أداة كشف ندخل معها إلى عدالة القضايا الإنسانية مثل قضية فلسطين وننبش عن مؤثّراتها وقيمها وأسرارها؟ بمعنى هل يصنع شاعر المقاومة أدب المقاومة كما يصنع أدب الغزل أو الملحمة، أو أنّ القضية تكشف عن نفسها في رؤية الشاعر وإبداعه؟ هل يكون شاعر المقاومة هو الشاعر المقاوم في تعبيره عن التجربة المعاشة كما هي حال إفصاح العشاق عن مواجيدهم؟
هل صنع الشعراء أدب كربلاء أم أنّ واقعة كربلاء صنعت حقيقة الأدب الحسيني وملاحم المصارع في تفاعل الإنسان مع فعل المقاومة الحسينية وآثارها؟ تلك مسألة مطروحة دائماً في أمر من يصنع الآخر: الأفكار أو الوقائع والأحداث. وإذا كانت الثورة الفرنسية قد أنتجت الفلسفة الألمانية، فإنّ «طوفان الأقصى» سوف ينتج أدبه المقاوم، ليس فقط لأنّ السرّ يكشف عن نفسه للشاعر ويضيء له طريق القول، بل لأنّ هذا الإنسان العارف يقرأ كتاب الحاضر ويرى إلى المستقبل بعينين مليئتين بالحلم. إنّه ضمير الأمة، وهو بذلك لا يؤرّخ للذي كان، بل ينفذ إلى ما سوف يكون، والمستقبل بهذا المعنى يصبح الموجود والممكن أو الموجود غير الممتنع منطقياً.
هل يتّفق الشعر والسياسة؟هل يستطيع الشاعر أن يؤسس لنظام ما ويأخذ على عاتقه شكلاً من أشكال السلطة؟ لا يمكن للشعر الحق إلا أن يكون تعبيراً عن الوجود الحق. ولذلك ليس الشعر المقاوم نمطاً من أنماط الشعر السياسي التقليدي، بل يمكن للشاعر أن يؤسّس لنظام عادل. وقد حدث ذلك في التاريخ مع شاعرين: الإمام الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية، وكذلك محمد إقبال اللاهوري، الذي أسهم في تأسيس دولة باكستان. في هذا المعنى، يؤسس شعر المقاومة لقيم المقاومة ونظامها السياسي العادل.
نعود إلى مثال محمود درويش، ونسأل: هل شعر درويش تعبيرٌ عن سلطة ما؟ هل هو مثقّف عضوي على منهج غرامشي مثلاً؟ إنّ شعر المقاومة الفلسطينية يختلف عن مدرسة إفصاحات المثقف العضوي، إذ تقوم العلاقة بين الشاعر وموضوعه بين الإنسان والقضية، وترفع درجة التعبير لتصل إلى مستوى التوهج والإشراق. كلما كانت القضية أكثر عدالةً، كان التعبير أعمق معنى، لأنه يصبح تعبيراً عن اللحظات الأقوى في حياة الإنسانية، وهو زاخر بطاقة الحياة. والشاعر في هذه اللحظات يصلنا بالكون الكبير والحياة الطليقة بينما هو يعالج المواقف واللحظات الجزئية والحالات المنفردة، وبذلك تبلغ درجة الاتحاد بالقضية الكبرى تكشّف سرّ هذا الكون القائم على العدل والنظام والحرية. حقائق يستدلّ بها على حكمة الخالق وعنايته عظيمة البركة. في شرحي العرفاني لشعر الإمام الخميني، وجدت رابطاً استسرارياً بين الإفصاح الشعري وقيام دولة القسط والعدل، بين الشعر وبين القيم، الإنسانية الإلهية، إذ يصبح شعر الإمام الخميني إفصاحاً عن هذه القيم. وكذلك نجد في شعر «الدفاع المقدّس» العلاقة بين الشعر والحرب المفروضة، بين «الدفاع المقدّس» ومقاومة العدوان في تجارب ألهمت الشعر الفارسي إنتاجاً إبداعياً ذا قيمة عالية على مستوى الشعر الإنساني. القضية الفلسطينية العادلة أنتجت شعر المقاومة. وليس بالضرورة أن يكون ذلك على طريقة الشعراء العرب في الإفصاح الظاهري اللفظي في وجهه التقليدي، من الفخر والحماسة إلى الرثاء والمديح والهجاء، بل في متابعة حركة الروح في تعبيرها عن تجربة المقاومة... مقاومة الشعب وتضحياته العظيمة للاحتلال. وعليه، يغلب على الشعر الفلسطيني أن يكون شعر مقاومة.
في قراءة نقدية للشعر العربي في زمن المقاومة في السنوات العشر الأخيرة مثلاً، نجد إنتاجاً شعرياً جيداً تغلب عليه أنماط الشعر الكلاسيكي، وهذا قد يكون من أنواع الحجب المانعة للإبداع، وهذه مسألة تتعلّق بوظيفة النقد. لكن في خضم هذا البحر الواسع، نقع على شعر رائع... صفير بلبل عاشق يترجم أشواق وردة المقاومة. سوف أختم هذه المقالة في ما يشبه الرؤيا، هي أنّ «طوفان الأقصى» وحرب غزة سوف يحدثان متغيّراً كبيراً على مستوى إنتاج شعر المقاومة وأدب المقاومة وإبداعهما.
إنّ الشاعر بحاجة إلى مسافة حلم بينه وبين الحدث، بمعنى أنّ الشعر نتاج زمن سابق. لكن حركة الزمن الفلسطيني متصلة مع فعل المقاومة، وحركة الزمن في الحرب تتسارع عن غيرها، ومسافة الحلم بين الشاعر والحدث هي مسافة زمن معاش. الشاعر يعيش زمن الطوفان، زمن غزة هاشم وجبل عامل واليمن السعيد، والعراق العزيز، وإيران هضبة الروح. نعيش في زمن المقاومة، وسوف ننتج أدب المقاومة، نفصح في الشعر عن تجربة المقاومة، وسوف يكون شعراً رائعاً. أيها الشعر سلاماً، نُكمل رحلتنا.

* كاتب، وزير لبناني سابق