صُمّم النظام الحقوقي الدولي ليس فقط ليساعد القوى الكبرى وتابعيها من دول ونُظم على النجاة بأفعالها الشائنة، وإنما أيضاً ليمكّنها من تحقيق أهدافها السياسية في الحروب والإبادات الجماعيّة بحق الشعوب المستضعفة. وبدل أن ينشغل العرب بتسجيل إيجابيات قرار المحكمة وسلبياته، تطوّع كتّاب ومحامون عرب لتبرير إخفاق المحكمة في إصدار أمر بوقف إطلاق النار في غزة، وكأن جنوب إفريقيا لم تكن تعي ما تفعل حين طالبت المحكمة بأمر إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية.
أولاً: ترحيب مفهوم
يمكن تفهم الدعم العربي، بمختلف تلاوينه، لقرار المحكمة الدّاعي إسرائيل إلى اتخاذ الاحتياطات و«الاحترازات» اللازمة لعدم الإضرار بالمجموعة الفلسطينية في غزة، وتفادي الإيغال في الإبادة الجماعية التي تمارسها الغرفة الأطلسية. وفي هذا الظلام الدامس، والعجز العربي، والتواطؤ الغربي مع إسرائيل، فإن صدور قرار من أعلى سلطة قضائية دولية يسلّط الضوء على جرائم الكيان، أمر تجد فيه الحالة العربية البائسة بعض الأمل، لتقليل الخسائر البشرية، والتذكير بالمأساة الفلسطينية.

ثانياً: دفاع غير مفهوم
يحتاج هذا الانبراء العربي، الواسع النطاق، إلى التنافس على حشد الحجج للدفاع عن إخفاق محكمة لاهاي في الدعوة إلى وقف إطلاق النار، إلى تعليل. فقد تبرّع كتّاب ومحامون وسياسيّون عرب لتأليف حجج سياسية وقانونية، ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تدّعيها المحكمة نفسها بشأن عدم صلاحية القضاة، أو عدم قانونية، أو عدم جواز إصدارهم قراراً يدعو الكيان إلى وقف عملياته العسكرية. مثلُ ذلك الكلام تم اختراعه بعد صدور الحكم، فلِمَ لم نسمعه قبله؟ وبعض هؤلاء المحامين والكتّاب كانوا يضعون ضمن توقعاتهم أن تدعو المحكمة الكيان إلى إنهاء حربه، ثم يبنون فوق ذلك جبلاً من التدحرج الذي يصل إلى حدّ إحراج إسرائيل والمنظومة الغربية، وكأن هذه المنظومة مشتبهة في ما تقوم به من قتل.

ثالثاً: وقف العمليات العسكرية
في البعد القانوني البحت، فإن إسرائيل دولة مسجّلة في الأمم المتحدة، وكان للمحكمة أن تدعوها إلى وقف عملياتها العسكرية فوراً، بغضّ النظر عما إذا كانت تشنّ حربها على دولة أخرى، أو على قطاع محاصر ومحتل. فلا يوجد في القانون الدولي ما ينصّ على أن من حق الدول أن تقضي على الجماعات التي لا تمثّل دولاً، أو الواقعة تحت الاحتلال، والواجبة حمايتها أصلاً. وقد وردت في حيثيات القرار الدعوة إلى الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين في غزة، على رغم أن «حركة حماس» لا تمثّل حكومة معترفاً بها دولياً.
ولإسناد ذلك، يمكن أن نقارن القرار بشأن غزة بقرار المحكمة ذاتها بشأن الحرب في أوكرانيا الصادر في آذار 2022، والذي دعا روسيا إلى «تعليق العمليات العسكرية فوراً». ثم إننا لم نقرأ في حيثيات الحكم بشأن غزة، أنه ما دام الاعتداء الإسرائيلي لا يقع على دولة معترف بها دولياً، وما دام يطاول شعباً تحت الاحتلال، فإن هذه الحيثية تمنع المحكمة من أمر إسرائيل بوقف عملياتها العدائية. ولا نعرف من أين أتى هذا التفسير الذي تكاد تقرأه في كل مصدر عربي. ولا نعرف لماذا يتبرع البعض بإشاعته من دون أن ينسبه إلى مادة قانونية.
فوق ذلك، فإن من أغرب ما تقرأ وتسمع القول إن إصدار المحكمة قراراً بوقف العمليات العسكرية لا معنى له، لأن الكيان لن يستجيب له. وكأن دولة الاحتلال استجابت يوماً لقرار دولي، أو كأنها سوف تستجيب لأوامر المحكمة بشأن «الاحترازات» المانعة للإبادة.
عدم إصدار المحكمة قراراً بوقف الحرب قد يُفسَّر غربياً وإسرائيلياً كضوء أخضر لمواصلتها


رابعاً: الدفاع عن النفس
في القراءة السياسية، فإن عدم إصدار المحكمة قراراً بوقف العمليات العسكرية، يمكن أن يُفسَّر غربياً وإسرائيلياً على أنه ضوء أخضر لجيش الاحتلال لمواصلة الحرب تحت مسمى «حق الدفاع عن النفس»، الذي روّجته أميركا. وهذا قد يعني استمرار القصف والتهجير وهدم المباني بوتيرة أكثر عنفاً، في ظل تصميم أطلسي، قلّ نظيره، على إنهاء المقاومة في غزة.
في هذه الحالة، يمكن إدراج الاحترازات التي أعلنتها المحكمة في باب الدعوات إلى «ضبط النفس»، و«تقليل الخسائر في صفوف المدنيين»، وتوفير المساعدات الإنسانية، وهي النداءات التي يكرّرها الغرب، الذي يستخدم ورقة المساعدات للضغط على غزة وأهلها ومقاومتها، وها هو يعلن تعليق تمويل «الأونروا».

خامساً: النظام الحقوقي الدولي
إضافة إلى "محكمة العدل الدولية" التي تقضي بين الدول، هناك "محكمة الجنايات الدولية" التي تحاكم الأفراد، والتي لم تحرّك ساكناً لمحاكمة الإرهاب الصهيوني القديم. وهناك أيضاً "مجلس حقوق الإنسان في جنيف"، والذي يُستخدم من ناحية لعقاب الدول المعادية لأميركا، ويتيح من ناحية أخرى للمضطَهدين أن يبثّوا شكواهم، ما يريح «الضمير العالمي»، ويُفرح المضطهدين بأن شكواهم تم سماعها وتوثيقها. لكن ليس لهذا الجسم الحقوقي أسنان، تُحوّل توصياته واقعاً على الأرض.

سادساً: منحة شهر كامل
تمنّيتُ لو أن جنوب إفريقيا تقدمت إلى المحكمة بطلب واحد فقط، وهو وقف إطلاق النار، لأن المطالب الأخرى اتخذتها المحكمة ذريعة للتهرّب من مسؤولياتها لحماية الفلسطينيين من الإبادة الجماعية. لكن منح إسرائيل مدة شهر كامل لتقديم تقرير عن التدابير الاحترازية لا يقلّ سوءاً عن تجاهل وقف إطلاق النار. الحقيقة أن المرحلة الحالية تبدو من أصعب المراحل على الواقعين تحت الاحتلال، وكأن أميركا بصدد إحداث نكبة ثانية حقيقية بأهل غزة، سواء تم تهجيرهم من القطاع أو لا.