من المتوقّع أن يتصدّر التطبيع السعودي مع إسرائيل، عناوين نشرات الأخبار مع وصول وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، إلى المنطقة، بعد أن تراجع الحديث بشأن الموضوع قليلاً في الأسابيع الأخيرة.
أولاً: البُعد الرمزي
هذه المرة، فإن ربط «طوفان الأقصى» بمحاربة التطبيع لم يأتِ من طرف غير معنيّ. فقد قال إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إن هجوم السابع من أكتوبر كان رداً على «محاولة دمج الكيان الإسرائيلي في المنطقة، عبر التطبيع، على حساب ثوابت الأمة، وثوابت الشعب». وتصريحات كهذه تتكرّر على لسان قادة محور المقاومة الآخرين. وبذلك، فقد تحوّل التطبيع، لناحية تمدّده أو انحساره، فشله أو نجاحه، إلى رمز، أو تعبير، عن انتصار أو هزيمة هذا المحور أو ذاك، ما يضفي على الملف سخونة متزايدة.
بيد أن الخطورة تكمن في إدراج التطبيع في قائمة ملفات البازار السياسي، الذي عادة ما يكون التنافس فيه أعمى، ويقوده الغلو، والتمترس المسبق، والأحكام الجاهزة. لا بل تكاد تتحول القضايا السياسية في ظلّ التنافس المحموم وغير العقلاني، إلى نوع من العقيدة أو الأيديولوجيا، وقضية ذاتية: إما نحن أو هم، ما يجعل من المحتمل أن تذهب الأطراف المؤيدة للتطبيع نحو القيام بعمل ما، حتى وإن بدا خارج المتوقع، تماماً كما كان «طوفان الأقصى»، بهدف القول إنه لا يمكن إيقاف قطار العلاقات مع الكيان، ولا يمكن لـ«حماس» وإيران الانتصار، بطوفان، أو بألف طوفان. إنه تمترس مخيف، وباعث على أكثر من القلق والانقسام الحاد.

ثانياً: سرديتان
الحقيقة أن هذه قضية ليست بالجديدة، وفي طريقها في المدة المقبلة لتتخذ لبوساً أكثر صراعيّة. فمنذ سنوات، تتجاذب الإقليم سرديتان متناقضتان، لا تلتقيان: إحداهما تنظر إلى أهمية إسدال الستار على القضية المركزية، بإقامة دولة فلسطينية، مهما كانت مواصفاتها الهشّة، أو حتى من دون دولة - وهذه هي الثانية - كما في مثال التطبيع الإماراتي، والمضيّ في تقوية العلاقات مع تل أبيب، بوصفها مدخلاً لتمتين العلاقات مع واشنطن، وتأسيس حلف يكون الكيان جزءاً منه، على نحو مباشر، أو غير مباشر، فاقع، أو هادئ، إضافة إلى تحقيق غايات ذات طابع قطري، مثل كسب مزيد من الدعم في ملف «الصحراء الغربية» في حالة المغرب. لكن الأهم، بالنسبة إلى المحور السعودي والغرفة الأميركية، أن يتم تحييد القضية الفلسطينية، وإخراجها من المعادلة، بما يمكّن المطبعين من مجاراة «محور المقاومة»، الذي بات من القوة بدرجة تجعله يدير حرباً، غير عادية وجريئة، ضد القوة العظمى. فوحدة الساحات، واستمرار إطلاق اليمنيين للصواريخ، وفشل إسرائيل في دحر «حماس»، وبقاء الردع اللبناني، وتحاشي واشنطن الدخول في معركة عسكرية مفتوحة مع إيران... كلّ ذلك يدفع الحلف الأميركي - السعودي إلى إعادة طرح ملف التطبيع من جديد.

ثالثاً: دورة تخصيب اليورانيوم
في القلب من أيّ صفقة تطبيع، تأمل الرياض الحصول على ضوء أخضر من واشنطن لإقامة برنامج نووي محلي «يشمل إنتاج الكعكة الصفراء، واليورانيوم المنخفض التخصيب». ولا تمانع الولايات المتحدة إقامة منشآت نووية في السعودية، بيد أن الأخيرة تشترط تمكينها من «تصنيع الوقود النووي»، والحصول على ما يسمى دورة إنتاج اليورانيوم. مثل هذا الطلب كان مرفوضاً من طرف واشنطن، التي لا تريد، كما تدّعي، انتشار التقنية النووية في الشرق الأوسط، بيد أن السعودية تسوّق عرضها في سياقات عدة، منها أن حصولها على التقنية النووية يحدث توازناً مع إيران، التي وقّعت مع الولايات المتحدة اتفاقاً نووياً في عام 2015. وعموماً، لم تسجّل طهران اعتراضاً على حصول الرياض على هذه التقنية، فيما لا يتمّ ذكر إسرائيل التي تحوز قنابل نووية. كذلك، تأمل السعودية علاقة عسكرية أكثر متانة مع الولايات المتحدة، وتوقيع اتفاقية دفاع مشترك معها.

رابعاً: دولة فلسطينية... ورقة التوت
يفهمُ ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، حرص واشنطن على تأمين سلامة الكيان، عبر إدماجه في المنطقة، وتهميش قضية الاحتلال. وبقدر ما يمثل الحديث عن إقامة دولة فلسطينية شرطاً لإقامة تطبيع مع الكيان، بروباغندا سعودية برّاقة، عادة ما تطرب لها أسماع العرب، فإن مثل هذا الشعار يعد ورقة مهمة بيد المفاوض السعودي، لتحقيق غايات ترتبط بما تسميه المملكة أمنها القومي. وعليه، وفي مقابل أن تحصل السعودية على بعض مطالبها، فإنها ستمضي في التطبيع، بينما تُدرج الدولة الفلسطينية في البنود الهامشية. وعلينا التذكر بأن كل الاتفاقيات العربية السابقة، مع مصر أو الأردن أو الإمارات أو البحرين أو المغرب، كانت القضية الفلسطينية فيها بمثابة ورقة التوت. وأخيراً، أُعلن عن استطلاع للرأي تقول فيه نسبة كاسحة من السعوديين إنها تناصر قضية فلسطين، وهذا صحيح، بيد أنه متى كان الرأي العام جزءاً من معادلة القرار؟ إن الهدف من استطلاع رأي كهذا أن تدرك واشنطن مقدار «المجازفة» التي يقوم بها محمد بن سلمان، الذي يستحق جوائز كبرى.

خامساً: الجائزة الكبرى
كان التطبيع الإماراتي والبحريني، المسلوق، في عام 2020، هدية للرئيس السابق، دونالد ترامب، لعله يتمكن من الفوز على الرئيس الحالي، جو بايدن، ويضمن استمرار الحصار على قطر. وراهناً، فإن الطرفين السعودي والأميركي يريان فرصة سانحة لتوقيع اتفاق تطبيع، يمكّن بايدن من تحقيق انتصار انتخابي لافت، وفوز تاريخي على العرب وإيران. أما الجائزة الكبرى فهي لإسرائيل؛ فالتطبيع السعودي، إذا ما أُعلن، سيجلب خطوات مماثلة من دول عربية وإسلامية أخرى، هي في وضع «دِزني وباطِيح».

سادساً: أهداف «طوفان الأقصى»
التطبيع، بهذا المعنى، يُراد منه إفشال أهداف عملية «طوفان الأقصى». ذلك أن توقيع اتفاقية إقامة علاقات رسمية بين بنيامين نتنياهو ومحمد بن سلمان، في أعقاب تهدئة بين «حماس» والكيان، ثم تسوية على الورق بشأن قضية الدولة العتيدة، يراد منه منع «الطوفان» من إعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية، بل وتلقين «حماس» درساً سياسياً عنيفاً، بأنه لا يمكن تحقيق حلم التحرير والدولة، عبر ليّ ذراع أميركا والكيان والسعودية. وإلى جانب العنف الأهوج الذي مورس على الفلسطينيين في الأشهر الأربعة الماضية، ستشهد المرحلة المقبلة صراعاً سياسياً حادّاً، لا يقل ضراوة عن العدوان العسكري، يُراد منه إجبار الفلسطينيين على الرضوخ، ومجاراة النظام الرسمي العربي، وليس اتباع نهج المقاومة الذي بات يمثل تياراً نافذاً في المنطقة.--------