ورثت إدارة الرئيس جو بايدن عن سابقتها، رؤية مفادها أن التطوّرات الحاصلة في المنطقة راكمت على الضفاف العربية كمّاً من الضعف والانقسام، بدرجة كافية لسقوط «تفاحتها» كما تفاحة نيوتن، لكن مع فارق بارز هنا، هو أن «التفاحة العربية» تسقط بفعل قوانين «الجاذبية الإسرائيلية» التي أفرزتها حقائق القوة لدى كيان راح ينظر إلى ما يجري في محيطه على أنه لم ينتج من تراكمات داخلية فقط، بل كذلك من مفاعيل خارجية لعل أبرزها أن العديد من الأنظمة كانت قد استمدّت مشروعيتها من نصرة القضية الفلسطينية، ولم تستطع فعلاً في هذا السياق. وعليه، فإن تلك المشروعية تلاشت على وقع فشل أصحابها الذريع، والذي شكلت عمليات التطبيع دليلاً دامغاً عليه.مع عملية 7 أكتوبر، أبدت الولايات المتحدة، وجلّ الغرب، استعداداً لتقديم دعم لا محدود لكيان، بدا أنه لن يكون كما كان عليه قبل هذا التاريخ، فيما بدا أن الهدف هو إحداث تغيير بنيوي في مساحة جغرافية محاصرة ظلّت تركيبتها تثير القلق بدرجة باتت تغوص في الذات المجتمعية لذلك الكيان. ورغم رسوخ صورة «الكسل» المرتسمة في الذهنية الأميركية تجاه إسرائيل منذ حرب تموز 2006، إلا أن الرهان الأميركي برز على قدرة هذه الأخيرة على إنجاز الأهداف المحددة. والمؤكد، هنا، أن واشنطن كانت قد أعطت الضوء الأخير لاجتثاث «حماس»، مهما كانت التكلفة البشرية، ومهما علت أصوات المنتقدين.
لكن مع بدء الشهر الثاني للحرب، راح الشارع الأميركي، ومعه الغربي، يرفع سقوف شجبه لما تمارسه آلة الإبادة الغربية في غزة. والمؤكد أن ذلك لم يأت على وقع مشاهد التدمير والقتل فقط، وإنما أيضاً على وقع معطيات أخرى أبرزها الصمود الأسطوري للمقاومة، والذي يمكن القول إنه تجاوز ملحمة فيتنام، وأنعش الآمال في نهوض مشرق عربي ما انفك يبدي مقاومة حثيثة تجاه محاولات تحطيمه. والشاهد هو أن ثالوث الصمود العسكري - المجتمعي - السياسي، والذي أنتج رابعاً تفاوضياً، قاد إلى تحويل أهداف الحرب المعلنة إلى «هرطقة» لا معنى لها. فلا تزال «حماس»، في الشهر الخامس من القتال، تعلن أن «تحرير الرهائن لن يكون إلا بالتفاوض»، وذلك من شأنه أن يكنس كلّ ما ذهبت إليه الخطط والاستراتيجيات الإسرائيلية.
في أدبيات نشوء الكيان، تلوح في التفكير الغربي مسألة «العصا» الحاضرة على الدوام، والقادرة على كبح جماح أي حركة نهوض على امتداد المنطقة، الأمر الذي يمكن لحظه بوضوح في نظرية «صدام الحضارات» لصموئيل هانتغتون. كانت مضامين النظرية تحمل في طياتها خلاصة تقول إن الشرق ظلّ على الدوام يمثل مركز قطبية عالمياً منافساً للغرب، وهو يتناوب معه السيطرة، منذ أن استطاع الآكاديون توحيد الهلال الخصيب في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد. وإذ سقطت الحاضنة السوفياتية التي لعبت دور القطب الشرقي في مواجهة الغرب لنحو نصف قرن، فإن من المحتم أن تبرز حاضنة شرقية لرفع الراية من جديد. وكان هانتغتون يرى في الإسلام تلك الحاضنة البديلة.
تجاهلت إدارة بايدن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، كما لم تفعل أي من سابقاتها. وكان منطلقها أن ذلك الصراع دخل «ثلاجة الموتى». ولذا، مضت في إجراء تمرينات لمراسم الدفن، الأمر الذي يمكن لمسه في حث العديد من دول المنطقة على اللحاق بـ«اتفاقات أبراهام»، التي كانت ترى واشنطن أنها ستؤدي إلى تغييرات جيوسياسية كبرى في المنطقة. هنا، كان الأميركيون يسوّقون، على الضفة الفلسطينية الرسمية بشكل خاص، لرزمة من الأفكار مفادها أن انضمام السعودية إلى تلك الاتفاقات، سوف يتيح للعرب الحصول على مكاسب.
إلا أنه في عالم ما بعد 7 أكتوبر، بدت «أكبر حاملة طائرات عائمة في العالم»، وفقاً لما كانت إسرائيل توصف به في ردهات السياسة الأميركية، وكأنها على وشك الخروج عن الخدمة. وإذا كانت السلوكيات التي أعقبت ذلك، تشي بدخول غرف صناعة القرار الأميركي في عملية مراجعة، فإنّ جزءاً من تلك العملية تكشّف من بين الشقوق التي ظهرت في جسد العلاقة الأميركية - الإسرائيلية. وفي هذا المجال، نقلت مصادر عن الوسيطين المصري والقطري قولهما إنهما يسمعان كلاماً أميركياً عالي النبرة عن أنه «لن تكون هناك عودة إلى الحرب، وأن الحكومة الإسرائيلية ستكون في وضع يلزمها بالبحث عن مخرج». وإذ احتوى ذلك النقل مفردات ومصطلحات جديدة على طبيعة الخطاب الأميركي عندما يتعلّق الأمر بالمشروع الإسرائيلي، فهو يشير إلى منحى أميركي جديد ساع نحو «الإطباق» تماماً على المشروع المذكور، من حيث أنه يلغي «هواجس الأمن» التي كانت تشكل عادة ذريعة عند الكيان من أجل بناء سياسات خاصة به.
بعد 2006، صارت «العصا شديدة الهشاشة»، وفقاً لتوصيف كيسنجر


ظهر تركيز الغرب على استخدام العصا في محطات 1967 و1973 و1982، لكن الأمر تغيّر صيف 2006، عندما عجزت «العصا» عن تأدية المهام المطلوبة منها، بل إن ما سجلته اليوميات الأميركية عن تلك الحرب يتلخّص بأن «العصا باتت شديدة الهشاشة»، وفقاً للتوصيف الذي استخدمه هنري كيسنجر، في مقابلة أجرتها معه صحيفة «واشنطن بوست» بعد نحو عام من انتهاء الحرب. الآن، بعد 7 أكتوبر، يبدو أن ثمة تناقضاً آخذاً في التبلور ما بين المشروعين الأميركي والإسرائيلي، ما يمكن لمسه في سياق المفاوضات الجارية راهناً لإنضاج اتفاق ما، إذ بات الأميركيون يشعرون بعبء «المشروع» الإسرائيلي بعد إيغاله غير المسبوق في الدماء الفلسطينية، وانعكاسات ذلك على «قيمية» واشنطن على امتداد المعمورة. لكن من الصعب الآن معرفة الوقت الذي سيحتاجه فعل التبلور، وخصوصاً أنه لم يصل بعد إلى مطارح «الفكر والثقافة»، إذ إن الوصول يصبح مقدّمة لتحوّلات أخرى في مجالات السياسة والإستراتيجيا.