فيما يختبرُ «محور المقاومة» نظرية وحدة الساحات، التي تُطبّق بمرونة، ومن دون «كاتالوغ» صارم، مراعية الموازنة بين المحلي والإقليمي والدولي، ومؤمنة بانتصار «حماس« و«الجهاد»، تمضي أميركا في منح ضوء أخضر - وليس أصفر - لإسرائيل لمواصلة العمليّات العسكرية في رفح، متلحّفة بغطرستها، وبقرارات «محكمة العدل الدولية»، وحرب دعائيّة لا تفتُر.
أولاً: الحرب الدعائية الأطلسيّة
لا يوجد أكثر من المنصّات الإعلامية الغربيّة، الأميركيّة منها على وجه الخصوص، تنديداً بجرائم الجيش الأميركي في العراق، حتى إبّان تواجده على الأرض، بين عامي 2003 و2011، ولكن بعد خروجه على نحو أوضح.
وهذا ما نتوقّعه بشأن الحرب على غزة. فبعد الضخّ الهستيري الداعم للكيان، ومدّه بالسلاح والمعلومات والغطاء السياسي، ومنع مجلس الأمن و«محكمة العدل الدولية» من إصدار قرار بوقف النار، تنطلق، رويداً رويداً، اللعبة الأميركية المكرورة في التعبير عن القلق على المدنيين. وبعد حين، ستصدر تقارير إعلامية وبحثية وأممية ضخمة توثّق جرائم الكيان، بالصوت والصورة، وتعدّد الأخطاء التي مارستها حكومة جو بايدن، والحكومات الغربية التي تصرّفت باستهتار بأرواح الأبرياء، بعكس القيم الأميركية، على رغم أنها حاولت – لكن كان عليها أن تبذل جهداً أكبر - ثني إسرائيل، ويمينها المتطرف عن غيّهما!

ثانياً: ضوء أخضر
ليس صدفة أنه بمجرّد مغادرة وزير الخارجية الأميركي، اليهودي، أنتوني بلينكن، مطار الكيان، دعا رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، جيشه إلى القيام بعملية عسكرية في رفح، بدعوى إكمال مهمة القضاء على «حماس»، التي أثبتت تماسكاً مذهلاً، مع ما يلحقه ذلك من أذى بالناس، الذين «يستحقّون العقاب ما داموا يتمسّكون بأرضهم». وليس مفاجئاً أن يترافق الإعلان الحربي الإسرائيلي مع تسريب أخبار عن امتعاض واشنطن من المبالغة في القتل، وأخرى عن رفض الكيان عقد مقابلة بين بلينكن ورئيس أركان جيش العدو، هرتسي هليفي، وثالثة عن تعمّق الهوة بين البلدين.
وعلى رغم كون الدجل الأميركي مكشوفاً، وتكرّر على مدى العقود الطويلة الماضية في تعامل واشنطن مع الفلسطينيين، واكتوت به الشعوب العربية، في كل دول «الربيع العربي»، وفي أفغانستان والسودان ولبنان، فإنه «في الحرب الدعائية، من الصعب جداً هزيمة الولايات المتحدة، لأنها تسيطر على جميع وسائل الإعلام في العالم، كما يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في آخر مقابلة له مع تاكر كارلسون.
تمضي أميركا في منح ضوء أخضر - وليس أصفر - لإسرائيل لمواصلة العمليّات العسكرية في رفح


ثالثاً: «محكمة العدل»... ضوء أخضر قضائي
يوماً بعد آخر، يتّضح مدى الضرر الفادح الذي يطاول الفلسطينيين، جرّاء فشل قضاة «محكمة العدل الدولية» في إصدار قرار يدعو الكيان إلى وقف عملياته العسكرية في القطاع. والموقف المتخاذل للقضاة عنى أمرين، الأول هو أن ما قامت به إسرائيل من قتل للبشر وهدم للحجر، في الأشهر التي سبقت عقد المحكمة جلسات استماعها، مثّل «دفاعاً عن النفس»، لكنه تضمّن أخطاء. والثاني، وهو الأكثر خطورة، أن القضاة يقولون فعلياً إنه يمكن لإسرائيل مواصلة حربها، و«الدفاع عن نفسها»، لكن عليها توخّي مزيد من الحذر. ولا أبالغ حين أقول، إن قرار المحكمة قدّم دعماً لا يستهان به للحرب الإسرائيلية، على رغم ما تضمّنه من إدانة ظاهرة، هي أقرب إلى هامش، فالنص الأساسي عدم الدعوة إلى وقف النار.

رابعاً: وحدة الساحات بين المحلي والإقليمي
في الفترة الماضية، اختبر «محور المقاومة» ثلاثة أمور، أولها: تفعيل نظرية وحدة الساحات في وجه الغرفة الأميركية، وقد تمّ ذلك على نحو وجدت فيه «حماس» نفسها مصونة ومحاطة بحلف عسكري وسياسي وإعلامي متين، يمتد هلالاً من إيران إلى اليمن، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وغزة. وثانيها: اختبار قدرة الدول والفصائل المنضوية ضمن المحور على اتخاذ قرار يدمج بين المساندة لغزة والتحديّات المحلية والوطنيّة لكل طرف: سوريا تمثّل حاضنة وخط إمداد يصل إيران بلبنان، من دون أن تنخرط في العمليات العسكرية المباشرة، فيما يوازن «حزب الله» بين تعقيدات الانقسام اللبناني العميق والعصي على الفهم والحاجة إلى الحفاظ على قواعد الردع التي تحقّقت في عام 2006. أما العراق فوضعه أكثر تعقيداً، بين حكومة ترى خطراً يحدق بها من انتصار الغرفة الأميركية على «حماس»، وجبهة داخليّة ليست على قلب رجل واحد، وبين واشنطن المتربّصة والتي تلوّح بالعمليات العسكرية والعقوبات الدولاريّة. وفي المقابل، يبدي اليمن شجاعة لا يمكن للحسابات السياسية التقليدية وحدها تفسيرها. إنه موقف يمزج بين النظر البعيد، والانخراط الأكيد في قناعات سياسية محدّدة، والأهداف المتصلة بالتفاهمات الداخلية والعلاقات المعقّدة مع الجنوب، وشركاء الوطن، والجوار السعودي.
أما الأمر الثالث الذي اختبره محور المقاومة، فهو مدى قدرة أطرافه على «صيد السمك». المبدأ الذي يؤمن به المحور، لا يعطي سمكاً، بل يعلّم أطرافه اصطيادها، للقيام بواجب الدفاع والمواجهة، في وجه العواصف السياسية والقصف الأميركي. ومن دون أن نجد جنوداً إيرانيين في اليمن ولبنان والعراق، يمكن لهذه الأطراف، بما تعلّمته من طهران، وما تلقّته من تدريب وسلاح وخبرة، وما تؤمن به من عقيدة، الوقوف على أرجلها، وتقديم المساندة لغزة. لكنّ العيون جميعها شاخصة إلى «حماس» هناك، في مدى قدرتها على تطبيق مقولة «صيد السمك».

خامساً: أوسلو جديد
في الثامن من أكتوبر الماضي، أطلق «محور المقاومة» جبهات مساندة لغزة، بدأت من لبنان، ثم عمّت العراق واليمن وسوريا، في وقت أعلن فيه السيد حسن نصرالله أن غزة ومقاومتها سوف «تنتصران». وفي هذا الإطار، يعمل الأميركي عبر المفاوضات والتخادم مع النظام العربي البائس، لتحقيق أهداف عجزت عن بلوغها آلته العسكرية الدموية والنازية، فيعلن صيغاً سياسية يُراد منها إدخال «حماس» في حظيرة «أوسلو جديد»، ملطخ بالتطبيع وأشلاء غزة، وكأننا نعيش في عام 1993!