منذ بداية حرب غزة، تتردّد في إسرائيل وفي الأوساط المؤيدة لحكومة بنيامين نتنياهو في الولايات المتحدة، دعوات إلى معاقبة قطر على خلفية استضافتها قيادة حركة «حماس»، ودور قناة «الجزيرة» في نقل الأحداث في القطاع. ورغم أن التقييم الإسرائيلي، منذ بداية الحرب، انتهى، إلى أن السماح للقناة بالتغطية هو مسألة «أمن قومي» (وهذا قرار اتخذته الحكومة)، إذا ما جرت موازنته مع الدور القطري في المفاوضات السياسية التي واكبت الحرب، إلّا أن ثمة تياراً داخل الحكومة كان يعتقد على طول الخطّ أن مقاربة مسألة العلاقة مع قطر يجب أن تكون مختلفة، باعتبارها دولة ذات دور سلبي بالنسبة إلى إسرائيل، وصولاً إلى بعض الدعوات إلى استهداف قادة «حماس» المقيمين على أرضها.ما يمكن الجزم به، على أي حال، هو أن قطر، رغم علاقة نظامها المركزية بالولايات المتحدة، واتصالاتها بالإسرائيليين، والتي تتمحور بصورة أساسية حول المسألة الفلسطينية، إلى جانب تعاطف ظاهر مع الجانب الفلسطيني، ليست كالإمارات التي ارتمت في الحضن الإسرائيلي تماماً، وربطت مصلحتها وأمنها بالعدو، وتلعب في وضح النهار أدواراً مسيئة للفلسطينيين وللعرب، رغم أن كلتا الدولتين تقعان تحت الرعاية الأميركية، وتتنافسان بشكل أو آخر على إبراز كل منهما فائدة العلاقة معها بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وقطر، ليست أيضاً كالسعودية، التي تسعى إلى انتزاع الوكالة الحصرية لتمثيل المصالح الأميركية بطريقة تميل إلى التشبّه بأبو ظبي أكثر منها بالدوحة، إلا أنها تأخذ في الحسبان عوامل داخلية خاصة، منها البنية السكانية، والحجم، والموقع الديني (الجاري تعديله)، وكذلك المرحلة الانتقالية التي تمر بها، في مقاربتها لموضوع التطبيع مع إسرائيل، وربطه بالعلاقة مع الولايات المتحدة.
تنشأ عن ذلك إشكاليات كبيرة في علاقة كل من الدول المذكورة بأميركا وإسرائيل، أثناء محاولتها مواءمة تلك الصِلة لتتناسب مع متطلباتها الداخلية، وهذا ما يدفع إلى تباينات بين كلّ منها وبين واشنطن وتل أبيب. أيضاً، ثمة صراع بين لوبيات تابعة لكلّ من الدول الثلاث على الترويج للطرف الذي تعمل لمصلحته داخل الولايات المتحدة. لكن الأكثر إثارة للجدل يبقى دور الدوحة، أقلّه في الوقت الراهن، باعتبار أن أبو ظبي حاسمة خيارها، والرياض تجلس على التل من دون كثير تدخّل، في انتظار ما سينجلي عنه غبار حوافر الخيول في الحروب الدائرة هنا وهناك.
مناسبة كلّ هذا التقديم، هو انطلاق نوع من العقوبات الأميركية الخاصة، وليس الحكومية، على قطر، تمثّل في قرار مجلس أمناء جامعة «تكساس إيه آند إم»، التي تُعتبر رابع أكبر جامعة في الولايات المتحدة، إغلاق فرعها في قطر، والذي افتُتح قبل 20 عاماً، وإنهاء شراكتها مع «مؤسسة قطر» التي تموّل الفرع، مع إثارة غبار حول «شبهة» معاداة السامية، في خطوة انتقدتها المؤسسة القطرية ورأت أنها مدفوعة بحملة تضليل تسعى إلى الإضرار بمصالحها. لا بل دخل رئيس الوزراء السابق، حمد بن جاسم، على الخط، متخلياً عن قرار عدم التحدّث في قضايا قطر الداخلية، ليؤكّد في تغريدة، على «إكس»، أن القرار اتُّخذ «عقاباً لدولة قطر لأنها كانت وسيطاً نزيهاً وليس بالنيابة عن أي طرف، لمساعدة شعب محاصر، ووقف حرب إبادة يتعرض لها. ونحن نعلم أن هناك لوبي ضغط يعمل في أميركا لخدمة جهة معروفة في مجالات عديدة».
منشور ابن جاسم أطلق نقاشاً حاداً على وسائل التواصل الاجتماعي، اتهم فيه القطريون، اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، بالوقوف وراء القرار، بل وأكدوا أن ذلك اللوبي لا يتحرك من فراغ، وأن هناك من دفع إلى هذا التحرك «لأنه يتمنّى ويحلم بأن يكون اسم دولته بدل اسم قطر في مكانتها الدولية»، في تلميح إلى الرئيس الإماراتي، محمد بن زايد، الذي اتهمه صاحب المنشور بأنه «الوكيل الحصري للصهيونية في منطقتنا». ولا يمانع القطريون، قيادة وشعباً، على ما يبدو، دفع ثمن لما يعتبرونه «نصرة قضية فلسطين»، كما يرى بعض من شاركوا في النقاش، مشيرين في المقابل إلى أن هناك «ثمناً سيدفعه أعداؤنا ومن يسعى إلى شيطنة قطر على الصعيد الدولي، وقد دفعوا المليارات سابقاً وضاعت في لحظة، وما زالوا يدفعون وسيدفعون، لأنه، للأسف، لا علاج طبياً للحسد والحقد». وذهب بعض آخر إلى الدعوة إلى «الاتجاه شرقاً... فالتقدم العلمي هناك والراية الحضارية تنتقل من الغرب الصليبي وتعود إلى الشرق الأقصى». لكن الأهم أن بعض القطريين قارنوا بين إغلاق الفرع وبين طرد عدد من رؤساء أعرق الجامعات الأميركية، مثل «هارفارد» و«بنسلفانيا» و«معهد ماساتشوستس»، في تلميح إلى أن القرار تقف خلفه اتهامات بمعاداة السامية.
بعض القطريين قارنوا بين إغلاق الفرع وبين طرد عدد من رؤساء الجامعات الأميركية بداعي «معاداة السامية»


على أن ما أقدمت عليه «جامعة تكساس» ليس قفزة في الفراغ، بل ستتلوه خطوات تخفّف من هذا النوع من العلاقات بين المؤسسات الخاصة في الدولتين، أو ربما أكثر. فاليمين الإسرائيلي، منذ بداية أحداث غزة، يحرّض واشنطن على إعادة النظر في العلاقة مع الدوحة، ارتباطاً بنظرته الإجمالية إلى التطبيع مع الدول العربية، وتحديداً الخليجية. إذ هو يريد الفصل تماماً بين التطبيع وبين الصراع مع الفلسطينيين، على الطريقة الإماراتية والبحرينية، الأمر الذي لا ينطبق على قطر. لكنْ ثمّة أمران يحولان دون انفلات الحملة ضد الدوحة من عقالها، الأول هو اختلاف نظرة إدارة جو بايدن إلى العلاقة مع الإمارة الخليجية ودورها، وهي نظرة تتجاوز الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي إلى مسائل أخرى تعتبرها واشنطن إستراتيجية؛ والثاني هو أن حكومة نتنياهو لا تستطيع، في خضم مفاوضات حساسة يتوقّف عليها مصير الحرب الدائرة في غزة، استخدام «اليد المالحة» مع قطر، رغم علوّ صوت الدوحة، أكثر من غيرها، في التحذير من اجتياح إسرائيلي لرفح، وزِّعت أدوار التهجير الممهِّد له، على الأردن ومصر والإمارات.