يبدو غريباً، بالفعل، أن كثراً لا زالوا يستغربون شبه غياب التحرّكات الشعبية العربية احتجاجاً على المذبحة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة. يسأل هؤلاء: ما للملايين لا تنزل إلى الشوارع في المدن العربية، للضغط من أجل وقف هذه المذبحة، فيما ثمة تحرّكات عارمة في أنحاء العالم، ترفع شعارات «فلسطين حرة» و«من النهر إلى البحر» بكل لغات العالم؟ هل يعكس ذلك طلاقاً عربياً مع القضية الفلسطينية، ورغبة في ترك شأن الحرب الإسرائيلية للفلسطينيين وحدهم، أو حتى لأهل غزة فقط؟ أم يأساً من القدرة على التأثير، إلى حد التسليم بالهزيمة سلفاً؟لا يبرّر قمع الأنظمة غياب الجماهير عن الشارع؛ ففي بعض الدول العربية، لم يعد ثمة أنظمة حتى تقمع. كما أنه ليس صحيحاً أن العرب لا يعنيهم ولا يُغضبهم ما يحدث في غزة. المشكلة الأساسية تكمن في أنهم لا يؤمنون بأن تحرّكهم سيُحدث فارقاً، وهذا أيضاً اعتقاد خاطئ، لكنه أصبح راسخاً. فحتى التململ الحاصل يضغط على الولايات المتحدة التي تقيس، من تلقاء نفسها، مستوى الاستياء، وما إذا كان يمكن أن يتحوّل إلى غضب وانفجار، وتتعامل مع إسرائيل على ذلك الأساس في المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الأخيرة في الحرب. لكن، يبدو العرب وقد ركنوا إلى أن العنوان الفلسطيني لا يمكن تغيير الكثير فيه، في ظل ميزان القوى القائم في العالم، وإن كانت هذه الحرب أظهرت في الوقت نفسه أنه يمكن أن تكون هناك حدود لسيطرة الحركة الصهيونية، بالقوة الأميركية والغربية، وصمت آخرين، على العالم. وما جنوب أفريقيا إلا مثال، كما دول كثيرة امتلكت الشجاعة لإدانة إسرائيل، حتى على المستويات الرسمية.
لكن هذا الشعور بالعجز لم يأتِ صدفة أو فجأة، بل هو نتاج مسار ترسّخ على طول الصراع منذ قيام إسرائيل عام 1948. فالهزائم العربية المتكرّرة ولّدت قناعة دفينة لدى العرب بأنهم عاجزون بهيئتهم الراهنة عن الفعل، فيما لم تكن لدى الدول العربية بنى حقيقية تسمح بالقيام بمراجعات بعد الحروب واستخلاص العِبر. وذلك بدوره يتأتى من أن هذه الدول التي نالت استقلالها شكلاً، بل وشهدت ثورات عسكرية كان تحرير فلسطين عنوانها الكبير، ما زالت تحتاج هي نفسها إلى تحرير من الغرب، أي إن العلاقة بين تحريرها ذاك وبين تحرير فلسطين، كلياً أو جزئياً، هي علاقة سببية: أيهما يأتي أولاً؟ وفي كثير من الأحيان، والخليج مثال، لا زالت «الأبواط» الأميركية على الأرض. وفي كل الحالات، لا زالت أميركا تمسك بالسلطات من رقابها وتتحكّم حتى بمفاتيح المجتمعات ونُخبها. الدول العربية ليست دولاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، لها مصالح عليا وأمن قومي يحكمان تحرّكاتها، بل ثمة أنظمة وشعوب داخل حدود، تنتقل من هيمنة إلى أخرى، ثم من شكل إلى آخر للهيمنة نفسها. أما بُنى الحكم في كل الدول العربية، فهي إما طوائف وقبائل وأعراق ترعى صيغ التعايش بينها الولايات المتحدة، وإما عصابات مافيا تمسك واشنطن برقاب زعمائها، وإما جيوش تسلّحها وتدرّبها وتتحكّم بعقيدتها.
ومع ذلك، لا يقدم الترهل العربي تفسيراً كلياً لهذا العجز. فإذا لم تكن هناك دول، إلا أن ثمة تيارات تناوبت على تصدّر المشهد العربي منذ نشوء إسرائيل كان برنامجها الرئيس، المعلن على الأقل، محاربتها. التيار القومي، مثلاً، رغم استمرار وجود بقاياه حتى اليوم، أصبح يُنطر إليه من قبل الشعوب على أنه وكيل حصري للهزيمة، ومعه التيار اليساري الذي كان الشريك الأصغر له، ضمن الأنظمة والجبهات والحركات التي رفعت شعار الحرب على إسرائيل. التيار الإسلامي المقاوم، بجناحيه السني والشيعي، استطاع أن يقدّم بديلاً أفضل بما لا يُقاس على مستوى الأداء المقاوم، وتمكّن من تقديم نماذج تفتح أفقاً محتملاً لهزيمة إسرائيل أو على الأقل فرض توازن معها، مثل تحرير جنوب لبنان عام 2000 أو الصمود الملهِم الذي نشاهده في غزة. إلا أن هذا التيار لم يستطع حتى الآن، رغم ذلك الأداء، تحقيق الاستقطاب الجماهيري الذي حظي به التياران القومي واليساري، ولا سيما أثناء رئاسة جمال عبد الناصر لمصر. فالجمهور الواسع لا زال يتعامل بشكوك في نظرته إلى الهدف النهائي للتيارات الإسلامية، حتى وإن كانت مقاوِمة، وهو ما ينطبق على كثيرين داخل بيئات المقاومة من المعجبين بأدائها، فضلاً عن البيئات الأخرى.
كما أن الغرب كان قد سبق نشوء التيار الإسلامي المقاوم أو امتلاكه تلك الفاعلية، إلى اختراق البيئة الإسلامية عموماً، منذ إعلان الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان، حتى لو كان هؤلاء الجهاديون، ثم النسخ المتوالدة منهم حتى اليوم، يتلحّفون بشعارات تخص القضية الفلسطينية، لتعزيز قدرتهم على أداء الوظيفة المطلوبة منهم من قبل الأميركيين. وعلى أي حال، مهمة التيارات الإسلامية المقاومة ليست بسيطة. فهي ليست مؤهلة لتسلّم السلطة، لأسباب كثيرة، وبالتالي هي ليست قادرة على بناء مجتمعات مقاوِمة، لتبقى تلك المجتمعات نهباً سهلاً للغرب نفسه الذي يخترقها ويتحكّم بأبسط مقومات عيشها وبقائها. ولذا، هي لا تستطيع تقديم وعود بحياة أفضل - حتى بعد النصر إن تحقّق -، أو الدمج بين مهمة التحرير ومهمة بناء الدول.
مع كل ذلك، ليس العرب حالة ميؤوساً منها. وكل ما تقدّم لم يفلح حتى في إنزال القضية الفلسطينية إلى المرتبة الثانية في الضمير الجماعي للعرب، بل هي لا زالت في المرتبة الأولى، ليس فقط بسبب التعاطف الطبيعي مع قضية عادلة لشعب شقيق، بل في الأساس لأن إسرائيل لا زالت في الوجدان العربي الجماعي، خطراً على كل العرب. الجديد في حرب غزة، أن كثيرين في العالم صاروا يعتبرونها خطراً على الإنسانية كلها، بعد انحرافها بوضوح ظاهر للعيان عن السوية البشرية. لذا، فإن ما يحصل الآن في غزة وعلى جبهات المساندة يصب في مراكمة الفعل المقاوم وفي ترسيخ المقاومة والسلاح كخيار ناجح، أو ربما وحيد، ضد إسرائيل، بغض النظر عن من يقوم به، وهو خيار ليس تحريرياً فقط، وإنما دفاعي في الأساس.