ليست المساعدات الأميركية المنوي تقديمها إلى الفلسطينيين المحاصَرين في قطاع غزة، عبر ممر بحري سيقيمه الجيش الأميركي من قبرص إلى القطاع، سوى محاولة لتحقيق الأهداف نفسها، وإنما بطرق أخرى، علماً أن تلك الأهداف أضيفت إليها الآن غايات تتعلّق بالحالة السياسية للرئيس الأميركي، جو بايدن. إذ إن غزة حالياً قضية تشغل العالم كله، وستكون بنداً رئيساً في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي تجري في 5 تشرين الثاني المقبل، وكذلك الانتخابات النصفية للكونغرس التي تجري في اليوم نفسه. وفي الوقت نفسه، يتوقّف عليها أيضاً المستقبل السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وكامل الائتلاف اليميني الحاكم في إسرائيل. ويقود ذلك مباشرة إلى الدور الذي يراد لهذه المساعدات أن ترسمه أو تمهّد له، في مستقبل القطاع. العملية برمتها تريد أن تقول للغزيين: «إننا نحن، لا غيرنا، الذين قتلناكم، قادرون على إنقاذكم، وفي يدنا سدّ رمق أطفالكم، ولا سبيل لكم إلى الحياة إلا عبر ممر نفتحه في ظل الحصار المطبق على القطاع». ولذا، فإنه ممنوع على مصر، مثلاً، بقرار أميركي إسرائيلي أن تمرّر شاحنة واحدة إلى القطاع إلا بموافقتهما، وهو ما يحصل فعلياً، وإلا ما معنى هذا الجسر البحري الذي يحتاج 60 يوماً لبدء العمل، طالما أنه يمكن إدخال المساعدات بسهولة وبشكل فوري، وبكلفة أقل بكثير عبر معبر رفح أو المعابر بين القطاع والأراضي المحتلة منذ عام 1948؟
ما أحدثته حرب غزة يرقى إلى أن يكون تعارضاً كاملاً بين بايدن ونتنياهو حول إدارة تلك الحرب، بما دفع الأول، في مناسبة خطاب حالة الاتحاد الذي أعلن فيه عن الممر، إلى القول لبعض أعضاء الكونغرس في حديث التقطته وسائل الإعلام من دون معرفته، إنه «سيكون لي حديث صريح» مع نتنياهو، في إشارة إلى استيائه البالغ من سياسته في ما يتعلق بغزة. والحديث هنا يتناول التأثير الذي أحدثته المذبحة الإسرائيلية والتي زادتها مشاهد الجوعى حدة، على فرص بايدن في الفوز على غريمه القوي، الرئيس السابق دونالد ترامب، كما على فرص حزبه الديموقراطي في الفوز في الانتخابات النصفية للكونغرس.
أما نتنياهو فليست لديه فرصة للبقاء في السلطة إلا بمواصلة المذبحة والتجويع، حتى لو بثمن توريط الولايات المتحدة في ما هو في غير مصلحتها. هو يريد ترحيل الغزيين إن أمكن، أو على الأقل إعادة احتلال القطاع. لكن ذلك يتطلّب وقتاً طويلاً واستمراراً للمذبحة على وتيرتها، في حين يعتقد بايدن أن وقت الحصاد آن، وأنه يمكن أخذ استراحة من الحرب، ومحاولة تحقيق الأهداف بوسائل أخرى، من دون التنازل عنها. هو يعرف أن صورة أميركا تلطّخت أمام الفلسطينيين والعرب والعالم كله، أكثر مما كانت عليه في السابق؛ فهذه هي المرة الأولى التي يرى فيها العالم على الشاشات كيف تغطي أميركا مذبحة مباشرة على الهواء بحق مدنيين، وترفض وقفها، وهذا ما سيحفر عميقاً في الوجدان العربي لوقت طويل.
ما أحدثته حرب غزة يرقى إلى أن يكون تعارضاً كاملاً بين بايدن ونتنياهو


وبما أن المساعدات أميركية ولا سبيل للاعتراض عليها، يسعى نتنياهو إلى جعلها معبراً لتمرير سياسات تصبّ في النتيجة في مصلحته، مثلما يفعل الآن بالنزر اليسير الذي يصل عبر المعابر، حيث لا يمرّ كيلوغرام واحد من الطحين إلى شمال غزة إلا وفقاً لآلية تخدم الهدف الإسرائيلي. وتتجلى هذه المساعي أولاً في إيكال المهمة إلى الحلفاء العرب، لإظهارهم «قادرين» على فعل شيء، في مقابل عجز من لا يتحالف مع العدو، وصولاً إلى إيقاع ما تضطر إسرائيل إلى إدخاله، بين أيدي مافيا مكوّنة من متنفّذين معادين للمقاومة يختبئون وراء الانتماءات العائلية، وهو ما يقدّم ملمحاً لما يمكن أن يكون عليه الوضع في القطاع، إذا ما نجح مشروع نتنياهو لفرض إدارة مدنية من العائلات بديلاً للحكومة القائمة.
لا أحد يستطيع رفض المساعدات بعينها من أينما جاءت. هذا قرار يعود إلى الجوعى أنفسهم الذين لا يمكن أحداً التحدّث بالنيابة عنهم، بمن فيهم المقاومة. لكن يمكن للأخيرة، كما تمكنت من منع إسرائيل وأميركا من تحقيق أهدافهما عبر الحرب، أن تفعل ذلك، في مواجهة التسلل عبر البطون الخاوية لتحقيق مآرب سياسية. مسألة المساعدات حساسة في هذا التوقيت، إلى درجة أن المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في الغذاء، مايكل فخري، وصفها بـ«الخبيثة»، باعتبار أنّ الولايات المتحدة تقدّم في الوقت نفسه قنابل وذخائر ودعماً مالياً لإسرائيل.
مع هذا، ثمة تدابير لا تزال غامضة في ما يتعلّق بالترتيبات المزمعة لإيصال المساعدات، والتي يتوقّف عليها تحديد من يحقق مكاسب سياسية أكثر من خلالها. فالجيش الأميركي يقول إنه لن يُنزِل أياً من جنوده الألف الذين سيشاركون في العملية، على الأرض، ما يعني أن المساعدات ستمر مرة أخرى عبر إسرائيل التي تسيطر على شاطئ غزة. وبالفعل، يبدو مما قيل عن الخطة أن الاحتلال هو من سيتولى عملية إدارة الحشود التي ستأتي إلى الشاطئ لنيل المساعدات، ما يُنذر بحصول مجازر طحين جديدة ويفسد العملية الأميركية برمتها.
هنا، يأتي تأثير تلك المساعدات، بالنسبة إلى كل من المقاومة الفلسطينية والولايات المتحدة وإسرائيل في تحديد ماهية اليوم التالي بعد نهاية الحرب. نتنياهو يفضّل أن توزَّع المواد الإغاثية عبر المافيات، في حين لن تقبل أميركا بأن يجري التلاعب بها بشكل يُبطل المفعول المُراد منها. وهذا يطرح مشكلة كبيرة؛ ففي القطاع عملياً، لا أحد قادر على تنظيم عملية توزيع مساعدات عادلة وفاعلة سوى إدارة حركة «حماس».
ومن شأن أيّ خلل في العملية أن يؤدي إلى مضاعفات. ماذا مثلاً لو اضطر جنود أميركيون أو آخرون من الحلفاء للنزول إلى الأرض؟ بالتأكيد ستعتبر المقاومة، التي لم تتخذ موقفاً علنياً من المسألة برمتها حتى الآن، ذلك الوضع احتلالاً جديداً، مع ما تعنيه رؤيتها تلك من مفاعيل وتداعيات.