غزة | ليس بوسعك، وأنت تمشي في شوارع شمال غزة، أن تتأكّد من أنها المنطقة ذاتها التي تتعرّض منذ ما يزيد على ستة أشهر، لأسوأ حملة قصف جوي وتوغّل بري في تاريخ الحروب، ثم حرب تجويع وتهجير. يَحكي لك شارع فهمي بك وسط مدينة غزة، عن إرادة لانتزاع الفرح من بين أنياب الموت. الآلاف من الأمهات يطُفن بأطفالهن بين المحال التجارية لشراء كسوة العيد، فيما محال الحلويات التاريخية فتحت أبوابها مجدداً، لتعرض على جانبي الطريق، ما نسيه الناس من كعك العيد والكلاج والبقلاوة. بسطات الألعاب، بدورها، تعرض ما لم ينل منه القصف الجوي، بينما يبث الباعة تكبيرات العيد عبر مكبّرات الصوت. الأجواء في هذا المكان، لم تكن لتتساوق مع حقيقة أننا لا نزال في خضمّ حرب قاسية، لولا أصوات الانفجارات المستمرة وركام المنازل المهدّمة والأبنية المحروقة التي لا يخلو منها أي شارع.أم عامر، هي واحدة من الأمهات اللواتي التقتهن «الأخبار» في ذلك الشارع. اصطحبت طفليها الصغيرين لشراء كسوة العيد لهما. تقول إن «المنطق يقتضي بأن نصنع الفرح بأي طريقة كانت. أنا أم لشهيد وطفلتي مصابة. لكنني مصرّة على أن أُخرج أبنائي من جو الحزن. سنفرح لأننا راضون بما قدّره الله لنا». وعلى رصيف شارع عمر المختار، تجد ما كنت تظن أن هول الحرب أنسى الناس إياه: «الفسيخ» أو السمك المملّح حاضر أيضاً، لكنه ليس بمتناول اليد، إذ ارتفع ثمنه إلى عدة أضعاف سعره المعتاد. لذا يكتفي الأهالي بتذكّر الرائحة الموسمية. ويقول الحاج أبو رامي: «جئت أشتري فسيخاً حتى نحافظ على عادة تناوله في صباح يوم العيد، لكن لم أستطع. سعر الكيلوغرام ارتفع من 10 دولارات، إلى 50 دولاراً. ومعنى ذلك أنني أحتاج إلى أكثر من 100 دولار حتى نفطر، وهذا فوق طاقتنا».
في داخل البيوت ومراكز الإيواء، تمرّ أجواء العيد قاسية. لقد فرّقت الحرب شمل العائلات، وبالكاد تجد أباً يجتمع مع زوجته وأولاده في مكان واحد. يقول عوض المبحوح: «أنا في الشمال، وزوجتي وأبنائي في الجنوب. وكل من هم حولي يعيشون ذات الشتات، الأب في مكان، والأم وأبناؤها في مكان آخر. العائلة هي الوطن في مناسبات كهذه، وبدون تلك الجمعة الجميلة، لا أجواء كاملة. ثمة غصة في القلب».
فرّقت الحرب شمل العائلات، وبالكاد تجد أباً يجتمع مع زوجته وأولاده في مكان واحد


مشهد العيد الكامل، تلخّصه مقابر القطاع. هناك، حيث جرت العادة أن يزور الأهالي أحباءهم في صبيحة اليوم الأول، في مقبرة الفالوجا المدمّرة، التقت «الأخبار» بعمران، وهو يحاول تجميع بقايا ضريح شقيقه المدمّر، بعدما داسته جرافات العدو، وطمست معالم آلاف القبور في المكان. يقول عمران: «بعد صلاة العيد، ستأتي والدتي لتزور قبر أخي الشهيد. حاولت أن أقنعها بأن لا تأتي، لكنها أصرّت على أن توزّع تمراً وكعكاً عن روحه. لذلك جئت أصنع قبراً من العدم. وضعت شاهداً، وكتبت على ورقة: إن هذا قبر أخي، والله لا أعرف من هو صاحب القبر، لكن سينفطر قلبها إذا لم تعثر على قبره».