وصل رئيس الكيان الإسرائيلي، إسحاق هيرتسوغ، إلى العاصمة الرواندية كيغالي، لحضور إحياء الأخيرة ذكرى الإبادة (7 الجاري) التي عاشتها البلاد قبل 30 عاماً، في وقت دخلت فيه آلة الحرب الإسرائيلية على غزة شهرها السابع، مخلّفة أكثر من 33 ألف شهيد فلسطيني (من بينهم 13 ألف طفل) وعشرات الآلاف من الجرحى، في ما باتت توصف بالحرب الأكثر دماراً ودموية في القرن الحالي.

هيرتسوغ وكاجامي حول الإبادة: روايات انتقائية
لم يَبدُ خطاب الرئيس الرواندي، بول كاجامي، ضابط الاستخبارات العسكرية السابق، والذي يسعى إلى فترة رئاسية رابعة في الانتخابات المرتقبة منتصف تموز المقبل، في ذكرى الإبادة التي راح ضحيتها أكثر من 800 ألف مدني غالبيتهم من إثنية التوتسي ومعتدلي إثنية الهوتو، مغايراً لشخصيته الجانحة إلى الحكم بالخوف والقمع، منذ نجاحه في قيادة «الجبهة الوطنية الرواندية» لإنهاء الإبادة في تموز 1994 وحكم البلاد منفرداً. إذ حفل الخطاب (الذي وصفته «اللوموند» بالعدواني) بإشارات تبريرية لدعم بلاده لحركة «23 مارس» المتمرّدة في شرقي جمهورية الكونغو الديموقراطية المجاورة، مكرراً صيغة - تشبه كثيراً الادعاءات الصهيونية المتكررة - «حق بلاده في الدفاع عن نفسها»، ومقدماً سردية تاريخية تسويغية لهذا الموقف بأن القوى التي ارتكبت أعمال الإبادة فرّت بعد عام 1994 إلى الكونغو بدعم من قوى خارجية، وأنها قامت منذ ذلك الوقت بمئات الهجمات الإرهابية عبر الحدود (بين البلدين)، وأن هذه القوى (تحديداً قوات التحرر الديموقراطي الرواندية) لم يتم حلها لأن وجودها يخدم بعض المصالح المسكوت عنها، في ما بدا محاولة لنفي الحقائق الموثقة عن ارتكاب قوات الجيش الرواندي جرائم إبادة جماعية بحق مجموعات من المدنيين في شرقي الكونغو منذ عام 1995. كما باغت كاجامي، في خطابه، المجتمع الدولي، الذي يوجه انتقادات حادة إلى كيغالي ودورها في الأزمة الراهنة في شرقي الكونغو، بتذكيره بتخاذله نحو رواندا حينذاك.
في المقابل، حملت تصريحات هيرتسوغ، الذي جلّت زيارته حجم العلاقات الوثيقة بين «تل أبيب» وكيغالي على الصعد كافة (لاحظت الميديا الصهيونية أنه أول مسؤول إسرائيلي بارز يزور القارة الأفريقية منذ 7 أكتوبر الفائت)، رواية انتقائية مشابهة تماماً. إذ قال إنه بعد ثلاثة عقود من فظائع الإبادة في رواندا، فإنه «على العالم النظر مباشرة إلى الجرائم المروعة، وأن يقر بالفظائع الحقيقية، وتحديداً المحاولة العمدية لإبادة شعب ما»، مضيفاً أن «الشعب اليهودي يعلم تماماً ما يعنيه التهديد بالإبادة والكراهية الممارسة ضده». هكذا، ربط هيرتسوغ بين تجربتَي رواندا وإسرائيل، متجاهلاً جرائم كيانه والتي ارتقت إلى مرتبة الإبادة النظامية، ومطالباً العالم بعدم السماح بتسييس الإبادة. كما حاول استدرار التعاطف مع الكيان على خلفية ما يتعرض له من انتقادات بشأن جرائمه في غزة، بالقول إن هذه الانتقادات هي شكل حديث من اتهامات «فرية الدم»، وإن إسرائيل لا تزال مستهدفة من قبل «نظام شر» ووكلاء له في الإقليم (في إشارة إلى إيران)، لديهم هدف معلن وهو «القضاء على الأمة اليهودية»، بحسب زعمه.

هيرتسوغ وإعادة التسويق في أفريقيا
أشار بيان لمكتب الرئيس الإسرائيلي، قبيل وصوله إلى كيغالي، إلى كون رواندا واحدة من ثلاث دول أفريقية قدمت للكيان دعماً ديبلوماسياً في أزمة عضويته مراقباً في الاتحاد الأفريقي. كما تضمن إشارة إلى بند ثانٍ يهم الدول الأفريقية وهو «مواجهة الإرهاب»، والتي تناولتها سلسلة اجتماعات عقدها هيرتسوغ مع عدد من القادة ووزراء الخارجية الأفارقة. ورغم أن الزيارة لم تستمر سوى ساعات، فإنها شهدت محادثات موجزة بينه وبين عدد من القادة الأفارقة الذين حضروا المناسبة، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، الذي بحث مع كاجامي (6 أبريل) التعاون الثنائي في قطاع الزراعة، والذي سيقوم بالأساس على الاستفادة من الدعم الإسرائيلي المقدم لهما. وجاء ذلك عقب زيارة آبي أحمد لـ«Rwanda Institute for Conservation Agriculture» الذي راكم، بدوره، تعاوناً وثيقاً مع الجهات الإسرائيلية المعنية، بتنسيق ورعاية من رون آدم، سفير إسرائيل السابق في كيغالي، منذ افتتاح الأولى سفارتها هناك في نيسان 2019 (حتى آب 2023).
ربط هيرتسوغ بين تجربتَي رواندا وإسرائيل، متجاهلاً جرائم كيانه والتي ارتقت إلى مرتبة الإبادة النظامية


هكذا، بدت واضحة محاولة هيرتسوغ إعادة تسويق صورة بلاده داخل أفريقيا من بوابتي رواندا وإثيوبيا، مع ملاحظة عدم حدوث أي نوع من التقارب مع عدد آخر من القادة الأفارقة، وأبرزهم الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوسا، والرئيس الموريتاني محمد ولد الغزواني (رئيس الاتحاد الأفريقي في دورته الحالية) اللذين حضرا المناسبة من دون إجراء لقاءات ثنائية موسعة مع كاجامي، على نحو يعكس طبيعة الاصطفافات التي لا تزال قائمة إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة. لكن يُتوقع، بشكل كبير، دفع «تل أبيب» وكيغالي وعدد من العواصم الأفريقية الداعمة للحضور الإسرائيلي في القارة، نحو تبني استراتيجيات «تعاون» متقدمة في ملف «مكافحة الإرهاب»، وهو ما يلتقي مع مساعي الكيان في المدة المقبلة للانخراط القوي في شؤون القارة وتعويض خساراتها المترتبة على حرب غزة.