سيكون من الصعب إقناع الناس بأنّ تعداد الشهداء لا يفيد في معركة التحرير الكبرى. الأمر لا يتعلّق بالمحاربين، بل بالراغبين في التحرير. فهؤلاء هم من يقيسون خطواتهم. وما يحسم النقاش لديهم في النهاية هو مواجهة السؤال الأهم: إلى أيّ حدّ أنت مستعدّ لدفع ثمن التحرر النهائي؟على ضفة العدو، ثمّة سردية عنوانها معركة البقاء. عندما اندفعت إسرائيل إلى الحرب المتوحشة في غزة، وضعت كل الحسابات الأخرى جانباً. قالت بعقل جمعي وخطاب موحّد: جمّدوا مسرح الانقسام السياسي ولا تحسبوا عدد القتلى ولا حجم الخسائر، وفكّروا جيداً في السؤال الأهم: ما نفع الاقتصاد القوي والرفاهية المميزة إذا كان الوجود بحدّ ذاته مهدّداً؟
عام 1967، كان الكيان الفتيّ ينتزع شرعية عالمية إضافية قامت على أساس أنه قادر على القيام بالكثير وحيداً. خلال ثلاثة عقود بعدها، صارت إسرائيل بالنسبة إلى الغرب نموذجاً لطور جديد من الاستعمار الإحلالي. لم يكن الغرب الصليبي يفكّر للحظة في أن يخرج من يعيد تجارب الغزو القاري لدول كبيرة كما حصل في أميركا وأستراليا، حيث قامت المستعمرات على أنقاض أكبر عملية تطهير للسكان الأصليين، وإقامة دولة جديدة، قاعدتها الاجتماعية عبارة عن خلطة هجينة لجماعات مستندة إلى دين وغرائز وأساطير.
لم يعد ممكناً مقاربة قضية فلسطين والتجاهل المتعمّد لحقيقة أنّ النظام الصهيوني يتصرف على قاعدة رعاته الأصليين في أوروبا نفسها، أي إنه يعرف أنّ البقاء والعيش بأمان يتطلبان عمليات تطهير متواصلة حتى طرد آخر من يتبقّى من السكان الأصليين، وعملية ترهيب بالدم والنار لكل من يقف على التل ناظراً. وبالتالي، فإن البحث في قمامة الغرب عن ورقة اسمها تسوية أو سلام أو ما شابه من تعريفات مهذّبة لسياسة الخضوع، ليس سوى ترداد للسردية نفسها التي قامت منذ اليوم الأول لقيام الكيان، حين قال أهله ورعاته: اقبلوا بما هو موجود أو ستخسرون المزيد!
هذه الصياغة تحوّلت أداةً بيد من لا يريد مقاومة هذا المشروع. نسي هؤلاء أن المشروع الإحلالي مستمرّ ولن يتوقف، وهم يبرّرون تخاذلهم بما يردّدونه اليوم: لقد دُمّرت غزة، فما نفع المقاومة؟
من يتجاهلون الحقائق، عن عمد أو عن مصلحة أو عن جهل، لا يعرفون أن المقاومة القائمة منذ انطلاقة مشروع إسرائيل قبل أكثر من مئة عام، لم تكن تنتج خراباً على خراب. بل أنتجت الفكرة الأصلية التي تنمو بقوة مع هذا الجيل، وهي أنّ للقوة حدّاً، وأنّ النظام الصهيوني بدأ يفقد قدرته على الدفع الذاتي، إلى أن رفع «طوفان الأقصى» الغطاء عن جسم كبير مصاب بأمراض مخيفة، وغير قادر على الحراك من دون مساعدة، ويحتاج إلى من يساعده للوقوف على قدميه ويبقيه في حالة توازن ويحميه طوال الوقت. وبعد ستة أشهر من الجنون الدموي، ومحاولة القول إنّ إسرائيل قوية وقادرة على مواجهة التحديات، يأتي الردّ الإيراني ليعيد الناس جميعاً إلى صبيحة 7 أكتوبر، عندما ثبت أنّ العدو يحتاج إلى من يحميه فعلياً، لا سياسياً أو لفظياً فقط.
ثبت أنّ العدو غير قادر على حماية نفسه بنفسه، وأنّ القوة النارية متى توافرت لدى المقاومة ستكون النتائج مختلفة، كما ثبت أن في الكيان من يتذوّق طعم الهزيمة


منذ إعلان إيران أنها ستردّ بشكل واضح على قصف قنصليّتها في دمشق، عمّ الذعر العالم حتى قبل أن يسمع صراخ إسرائيل. ولا يتعلق الأمر بنوع الرد وحجمه وأهدافه وتوقيته وآلياته، بل بأن إسرائيل باتت مكشوفة بوضوح أمام العالم أجمع. صحيح أنها قوة قادرة على ارتكاب الجرائم في منطقة لا تواجه فيها قوة نارية مماثلة، كما هي حال غزة، ولكنها، في مواجهة حزب الله في لبنان، مثلاً، تتّكل على أنّ الحزب لا يريد القيام بأعمال عسكرية من شأنها توسيع الحرب. ما يعني، بعُرف العدو، أنّ حزب الله مضطرّ لتنفيذ عمليات بأسلحة محددة، وضمن سقوف مضبوطة. وبالتالي، قد تبدو إسرائيل مرتاحة في المواجهة مع حزب الله في لبنان أو المقاومة في غزة، لأنها تجد نفسها قادرة على مواجهة حرب استنزاف. لكن التوتر والخوف يسودان فور الشعور بأن الأمور قد تكون قابلة للتوسع أكثر. فبمجرد إعلان إيران نيتها الرد، أيقنت إسرائيل أن أسلحة وأدوات جديدة طرأت على المعركة. وهذا فرض استنفاراً أظهر للعدو أولاً، ولحلفائه ثانياً، وللعالم ثالثاً، أن إسرائيل التي تتمتع بقدرة نارية هائلة غير قادرة على تحمل تبعات معركة متماثلة، ولتحمل قوة نارية موازية أو حتى أقل منها. وبالتالي، فإن لحظة الحقيقة تفرض التواضع، وهو حال قادة العدو الذين سارعوا إلى طلب النجدة من أميركا وحلفاء عرب وغربيين. وما حصل أمس، أكّد مجدداً أنّ إسرائيل من دون الحماية المباشرة، لن تتحمّل مواجهةً أوسع من الجارية حالياً.
ويكفي أن نقوم بتمرين بسيط:
ماذا لو قرر حزب الله، إطلاق خمسة آلاف صاروخ «نوعي» دفعة واحدة على كيان الاحتلال (ومن المؤكد أنه قادر على ذلك)، واستخدم عدداً كبيراً من جيل جديد من المسيّرات الانتحارية (ومن المؤكد أنه قادر على ذلك)، وأطلق عشرة آلاف صاروخ «عادي» بمديات مختلفة (ومن المؤكد أيضاً أنه قادر على ذلك)، وأرفق ذلك بقصف مدفعي من أسلحة متنوعة قادرة على الوصول إلى أهداف في عمق الكيان؟ وماذا لو قام بذلك أكثر من مرة، ثم قرّر أن يكتفي في حرب مفتوحة بإطلاق نحو ثلاثة آلاف مقذوف من كل الأنواع يومياً، كيف ستقود إسرائيل الحرب، وأين ستنشر منظومات الدفاع الجوي، وكيف ستنتقي المنشآت الأهم للحماية، وكيف سيكون تصرف الجمهور وهو يسمع دويّ الصواريخ (وليس صافرات الإنذار)، وكيف سيكون الوضع في كل مناطق الكيان وليس في منطقة القواعد العسكرية فقط؟
مجرد تخيّل هذا الأمر يحيلنا مجدداً إلى النتيجة الأبرز لعملية «طوفان الأقصى»، وهي أنّ العدو لم يعد قادراً على العيش من دون دعم مباشر من الغرب، وأنّ القوة النارية الهائلة ليست مفتوحة طوال الوقت. وفي المقابل، بات واضحاً أنّ على المقاومين في كل الميادين تحصيل قدرات نارية أكبر بكثير مما هو موجود لديها الآن، وهي عملية قائمة أصلاً، لأنّ لحظة الحقيقة التي يخشاها العدو وكل من يرى فيه خلاصاً فردياً أو جماعياً أو نموذجياً، هي لحظة قادمة.
قبل أيام، كتب حاييم ليفنسون، وهو صحافي علماني وليبرالي، مقالةً في «هآرتس» انتهت إلى خلاصة يجدر التوقّف عندها. قال: «لقد خسرنا. هذه حقيقة يجب أن تُقال. وعدم القدرة على الاعتراف بها يلخّص كل ما تحتاج إلى معرفته عن علم النفس الفردي والجماعي في إسرائيل. ولأنّ الاعتراف بالهزيمة ليس بالأمر الجيّد، نكذب على أنفسنا. اليوم، نحن في وضع لن نتمكّن من استعادة إحساسنا بالأمن الشخصي. وكلّ تهديد إيراني سيجعلنا نرتعد. لقد تعرّضت مكانتنا الدولية لضربة قوية. وظهر ضعف قيادتنا للخارج القريب والبعيد. ما حصل أننا نجحنا لسنوات في خداع العالم، ثم أقنعنا أنفسنا بأنّنا دولة قوية وشعب حكيم وجيش قوي. لكن الحقيقة، نحن مجرّد قوة جوية، ولكن، شرط أن تستيقظ في الوقت المناسب».