في الأمثال الشعبية العربية، "أنْ تأتي متأخّراً، أفضل من ألّا تأتي أبداً". غير أن هذا المثل لا يمكن تطبيقه في حالة الشراكة التجارية التركية مع إسرائيل، بعدما قرّر الرئيس رجب طيب إردوغان، وقف تصدير 54 منتجاً إلى كيان العدو. فبناءً على اجتماع عُقد مساء الإثنين (8 نيسان) في القصر الجمهوري في "بش تبه" في أنقرة، وضمَّ إلى إردوغان، نائبه جودت يلماز، ووزير الخارجية حاقان فيدان، ووزير التجارة عمر بولات، وآخرين، تمّ الإيعاز إلى بولات بإصدار تعميم يقضي بوقف تصدير 54 منتجاً إلى إسرائيل بدءاً من صباح اليوم التالي، وذلك بعدما رفض فيدان اقتراحاً أردنيّاً بتقديم المساعدات التركية عبر الطائرات الأردنية لتلقيها جوّاً على ساحل غزة. ووفق تعميم وزارة التجارة، فإن وقف تصدير هذه المنتجات يأتي "في إطار المسؤولية التي تتحمّلها إسرائيل والنابعة من القانون الدولي"؛ ومن المنتجات التي جرى وقفها: وقود الطائرات المستخدم للأغراض العسكرية، الإسمنت، المواد الكيميائية، الأسمدة الكيميائية والطبيعية، زيوت المحرّكات، السُّتر الفولاذية، منتجات الألمينيوم بما فيها الأسلاك الشائكة، الكابلات المصنوعة من الفيبر، الدهانات، حاويات الفولاذ، الكبريت، خلّاطات الباطون، الرافعات، الزجاج وجميع منتجات الصلب والحديد وغيرها.وفي ضوء القرار التركي، يمكن سَوق الملاحظات الآتية:
1- جاء قرار وزارة التجارة بعد ستة أشهر كاملة من بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
2- على الرغم من كل التحرّكات التي كانت تجري في الشارع التركي احتجاجاً على هذه التجارة، لم توقف الحكومة التصدير، إذ إن معدّل وصول السفن إلى موانئ إسرائيل بلغ ثماني سفن يوميّاً.
3- كان وزير التجارة يقول إن تركيا تصدّر المنتجات إلى فلسطين، لكنها "مضطرة" لتصديرها عبر الجمارك الإسرائيلية، فيما عكس التعميم الجديد كذب تصريحات بولات، إذ كانت كل الصادرات تذهب إلى إسرائيل.
4- إن بيان وزارة التجارة يقتصر على عدد محدود من المنتجات مع مطالبة العديد من وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني بقطع التجارة كاملة؛ بل إن صحيفة "قرار"، التي كانت أكثر الصحف متابعة في مانشيتاتها اليومية اعتراضاً على التجارة مع إسرائيل، أوردت أن منتجات كثيرة ازداد تصديرها إلى الكيان لم تكن من بين المنتجات التي أوقف تصديرها. ومن ذلك: الزيت والزيتون والخُضر والفواكه والبندق والفواكه المجفّفة ومنتجات التبغ والأنسجة. وقد أيّد رئيس "حزب الشعب الجمهوري"، أوزغور أوزيل، قرار الحكومة، قائلاً إنه "ليس كافياً، ولكنه خطوة أولى بعدما صمّت الحكومة أذنيها عن سماع مطالباتنا بوقف التجارة مع إسرائيل".
أيضاً، دعا رئيس "حزب المستقبل"، أحمد داود أوغلو، إلى منع السفن الإسرائيلية من الرسو في الموانئ التركية ما دام في مقدور الحكومة فعل ذلك. ومن جهته، قال رئيس "حزب السعادة"، تيميل قره موللا أوغلو، إن القرار يعكس كم كانت الصادرات التركية مساهمة في حرب الإبادة التي تشنّها الصهيونية على أطفال غزة.
ربّما أدرك "العدالة والتنمية" عواقب المواقف التي اتّخذها في شأن التعامل مع إسرائيل


5- ما هو لافت في بيان وزارة التجارة، أن تركيا ستوقف تصدير هذه المنتجات "إلى حين وقف إطلاق النار الفوري في غزة والسماح بتدفّق المساعدات الإنسانية إلى القطاع بصورة كافية ومن دون انقطاع"، بمعنى أن تركيا ستعود لتصدير هذه المنتجات فور تحقيق هذين الشرطين. لكنّ الصحافي متين جيهان ذكر، في تعقّبه لحركة الملاحة بين الجانبين، أن عدد السفن التي اتّجهت من الموانئ التركية إلى تلك الإسرائيلية، ولا سيما ميناءي حيفا وأشدود منذ بدء سريان مفعول قرار وقف التصدير وحتى يوم الجمعة الماضي، بلغ حوالى عشرين سفينة محمّلة بكل المنتجات، بل إن وسائل إعلام إسرائيلية تحدّثت، وفق ما نقلته وسائل الإعلام التركية، عن أن إسرائيل ستستورد المنتجات التركية الممنوعة عبر بلد ثالث قد يكون سلوفينيا.
6- إن القرار لم يُتّخذ إلا بفعل استمرار الضغط الشعبي المتعدّد الأشكال. بل ما كان للقرار أن يُتخذ لولا الهزيمة التاريخية لـ"حزب العدالة والتنمية" في الانتخابات البلدية، حيث خسر معظم المدن الكبرى وتقدّم عليه "حزب الشعب الجمهوري" على مستوى تركيا بـ37 نقطة ونصف نقطة مقابل 35 نقطة.
وربّما أدرك "العدالة والتنمية" عواقب المواقف التي اتّخذها في شأن التعامل مع إسرائيل وما ألحقه ذلك بخسارة جزء من الأصوات ذهبت إلى "حزب الرفاه من جديد" الإسلامي وإلى أحزاب أخرى. بل إن أصواتاً في التيار المحافظ ذكرت أن تصدّي الشرطة أخيراً لاحتجاجات النساء المحجّبات المعترضات على التجارة مع إسرائيل لم يحدث مثله حتى في 28 شباط 1997، عندما اتّخذ مجلس الأمن القومي قرارات متطرّفة ضدّ حكومة نجم الدين إربكان والتيار الإسلامي عموماً. وإذا كان التساؤل محقّاً حول السبب الذي دفع إردوغان إلى عدم اتّخاذ خطوة تقليص التجارة مع إسرائيل قبل الانتخابات ما دام استمرارها سيفقده أصواتاً مهمّة، فإن الجواب هو أن الرئيس التركي تعامل، وفق الكثير من المحلّلين الأتراك، بغطرسة مع الموضوع، وكان يعتبر أنه مهما فعل، فإن القاعدة ستنتخبه. وقد انسحبت هذه الغطرسة أيضاً على نوعية المرشّحين للانتخابات الذين فرضهم على رغم معارضة فئات واسعة لهم داخل حزبه.
7- ينقل الكاتب مراد يتكين أنه ربّما من أسباب قرار وزارة التجارة هو استباق الحكومة لاستعدادات لتسيير قافلة جديدة من "أسطول الحرّية" متعدّدة الجنسيات من تركيا، لكسر الحصار على غزة وخشية إردوغان من أن تتكرّر قضيّة "مافي مرمرة" وتتصدّى إسرائيل عسكريّاً لها ويسقط قتلى على غرار ما حصل في 31 أيار 2010. وهذا القرار التجاري قد يحول دون إطلاق أسطول الحرية الجديد، ويخرج إردوغان من أيّ حرج تجاه حلفائه الغربيين.
ووفق الكاتب المعروف طه آقيول، فإن تركيا، "عندما وقفت ضدّ إسرائيل في دافوس وفي حادثة أسطول الحرية كانت تلك القوية، فيما اليوم هي التي تقوم بزيارات مالية للإمارات والسعودية وإسرائيل". ويقول إن موقف بلاده المهادن لإسرائيل كان، على رغم كل الإبادة، متراخياً والسبب هو أن غالبية الشركات المصدّرة تنتمي إلى المحيطين بإردوغان، مضيفاً: "لو كانت تركيا بلداً قويّاً ومتوسط دخلها الفردي 25 ألفاً وليس 12 ألف دولار، لما دخلنا في علاقات شراكة تجارية مع إسرائيل خلال العدوان، ولكانت يدنا أقوى".