رسمياً، كان الموقف الأردني إذاً واضحاً، إذ شكّل امتداداً لسياسة المملكة حيال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وللارتهان العميق للإدارة الأميركية. تلك السياسة سبق أن حدت بعمّان إلى فتح الطريق البري لوصول البضائع إلى إسرائيل، والتعاون مع السعودية لاعتراض بعض الصواريخ التي أطلقتها حركة «أنصار الله» من اليمن في اتجاه الأراضي المحتلة، عدا قمع التظاهرات الداعمة لفلسطين واعتقال ما يتجاوز الخمسين متظاهراً بشكل إداري، على رغم قرار المدعي العام إخلاء سبيلهم. وفور بدء الهجوم، استدعت وزارة الخارجية الأردنية السفير الإيراني في عمّان، وطالبته «بوقف الإساءات والتشكيك في مواقف الأردن»، وذلك بعد أن نقلت «وكالة أنباء فارس» شبه الرسمية في إيران، عن مصدر مطّلع القول إن «القوات المسلحة الإيرانية ترصد بدقة تحركات الأردن خلال الهجوم على إسرائيل»، وإنه «في حال شارك الأردن في أعمال محتملة (لصد الهجوم) فسيكون حينذاك الهدف التالي».
وعندما تحدّثت وسائل الإعلام العالمية عن سقوط عدد من الشظايا الصاروخية في عمّان، صارت المشاركة الأردنية في اعتراض الصواريخ والمُسيّرات الإيرانية، واقعاً ملموساً، إذ سقطت قطع صاروخية كبيرة الحجم نسبياً في مناطق مأهولة بالسكان، على أحد الطرق الرئيسية من دون أن تتسبّب بإصابات أو أضرار. ورُصدت هذه الشظايا في منطقة مرج الحمام التي تقع في الجنوب الغربي من وسط عمان، ولواء الحسا الذي يتبع لمحافظة الطفيلة جنوبي البلاد، حيث توجّهت فرق الإنقاذ والدفاع المدني لإزالتها. وفاقمت هذه الوقائع حالة الجدل الأردني على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تناولت خصوصاً مشاركة عمّان في التصدي للمُسيّرات والصواريخ الإيرانية عند مرورها فوق الأراضي الأردنية. وأطلقت وسائل الإعلام الرسمية وتوابعها من مؤثري تلك المواقع حملة تبرير للموقف الرسمي عنوانها «المصلحة العليا وضرورة حثّ مختلف الأطراف على ضبط النفس وعدم الانجرار نحو أي تصعيد ستكون له عواقب خطيرة»، وفي الوقت نفسه جرى بث اشائعات تتهم طهران بالاتفاق مع الطرف الأميركي على شكل الرد، والرغبة في جرّ الوطن العربي إلى الخراب والدمار، مع الاستدلال على ذلك بغياب «الضرر الحقيقي» للرد الإيراني على الاحتلال.
ارتفاع ملموس في شعبية المقاومة الإسلامية كفكرة في الأوساط الأردنية
لكن على رغم أن السلطات الأردنية حرصت على مدار السنوات الماضية على شيطنة إيران، والشيعة كذلك، وإقناع الأردنيين بأن الولايات المتحدة هي حليف وجودي لبلادهم، إلا أن الموقف الشعبي الأردني كان على الدوام يقوم على أن ما يجمعه مع إيران هو أكثر بكثير مما يجمعه مع أميركا التي تمول الإرهاب الإسرائيلي والعدوان الوحشي على غزة. وجاءت المشاركة الأردنية في اعتراض الصواريخ والمُسيّرات الأردنية لتؤكّد للأردنيين أن سلاح الجو الأردني موجود للدفاع عن إسرائيل، وأن نصرة غزة لا تحرّكه. ولم تقنعهم المبرّرات التي تقوم على أن إسقاط المُسيّرات يأتي ضمن «الدفاع عن سيادة الأرض»، خصوصاً أن أميركا تقيم قواعدها العسكرية على معظم أراضي المملكة من شمالها إلى جنوبها بموجب «اتفاقية الدفاع الأميركية - الأردنية»، ويعتبرها المواطنون الأردنيون انتهاكاً لسيادة بلادهم. ولذلك شارك الأردنيون على وسائل التواصل الاجتماعي، الغزيين الذين احتفلوا بالرد الإيراني الذي كسر هيبة قوات الاحتلال وخفّف الأعباء على غزة، حتى لو تمثل هذا التخفيف في مجرد غياب «الزنّانات» (المُسيّرات) من سماء القطاع لليلة واحدة، والخسائر الاقتصادية لإسرائيل التي بلغت 1.35 مليار دولار من أجل صد الهجوم.
خلاصة ما حصل، بالنسبة إلى النظام الأردني، أنه صار من الصعب عليه الترويج لروايته بعدما أصبح واضحاً من يدعم غزة ومن يقف مع إسرائيل. وعلى رغم أنه قد لا يكون هناك ثمة موقف جمعي واحد يمكن نسبه إلى الشعب الأردني حيال إيران، إلا أن المسؤولين الإسرائيليين هم وحدهم من أشادوا بدور الأردن في إسقاط المُسيّرات. لكن الأكيد هو الارتفاع الملموس في شعبية المقاومة الإسلامية كفكرة في الأوساط الأردنية الشعبية التي تنتمي عرقياً ودينياً وأخلاقياً إلى القضية الفلسطينية، وربما تأخذ هذه الفكرة حيزاً سياسياً جاداً في البيئات والأوقات المناسبة، لأنه حتى إذا جرى التسليم بأن بعض الأردنيين سيصدّقون رواية الأبواق الرسمية حول أن الضربات الإيرانية «مسرحية»، فإنها حتماً «مسرحية» أفضل بكثير من مسرحية الإنزالات الجوية الأردنية للمساعدات فوق قطاع غزة والمستشفى الميداني الأردني فيه. والأهم، أنها «مسرحية» لا تستطيع الحكومات العربية أن تقوم بمثلها.