بعد نحو أسبوعين من الهجوم الإسرائيلي على قنصليتها في العاصمة السورية دمشق، «حاكت» إيران ردّها المركّب والمباشر، والذي جاء ليراعي عوامل عدّة، من أبرزها توجيه رسالة ردعية ضدّ إسرائيل من جهة، وتفادي الدفع بالأمور نحو حرب إقليمية من جهة ثانية. وإذ «بدا أن الهجوم قد تمّت صياغته، وفق معايير مدروسة بعناية»، بحسب مجلة «فورين بوليسي»، فقد دفع ذلك مصادر غربية إلى الزعم أن إيران بادرت، عبر القنوات الدبلوماسية، إلى إخطار الأميركيين في شأن الهجوم قبيل حلول موعده بوقت طويل، وهو ما أعطى الإسرائيليين وحلفاءهم الإقليميين والدوليين متّسعاً من الوقت لإعداد دفاعاتهم الجوية. والآن، تأمل إيران في أن تكلّل المساعي الغربية إلى «كتم» الردّ الإسرائيلي بالنجاح، وفق صحيفة «ذا غارديان»، التي أشارت إلى أن «(الرئيس الأميركي جو) بايدن، شأنه شأن الإيرانيين، يدرك جيداً أن نتنياهو يرغب في تدمير المنشآت النووية الإيرانية، والتي يعتبرها تهديداً وجودياً لإسرائيل». وبينما يعدّ هذا «أمراً بالغ الصعوبة من دون مساعدة الولايات المتحدة، إلا أنّه من الممكن أن يسعى نتنياهو وغيره من الشخصيات المحسوبة على معسكر الصقور داخل إسرائيل، إلى اغتنام فرصة الهجوم لتحقيق الطموح المذكور»، وفق الصحيفة.ولذا، رأت «فورين بوليسي» أن استهداف إيران للأراضي الفلسطينية المحتلّة للمرّة الأولى في تاريخ صراعها مع إسرائيل، يُعدّ بمثابة «اللحظة الأخطر في الشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة»، مضيفة أن ما جرى «يهدّد بدفع المنطقة نحو صراع أوسع نطاقاً». ونقلت عن مسؤولين أميركيين قولهم إن «إيران قد وقع اختيارها على طرازات معينة من الطائرات المُسيّرة، مخصّصة للاستخدامات التكتيكية، وتتميّز بسرعة أبطأ نسبيّاً (من طرازات أخرى من المُسيّرات المتوفرة في حوزتها)»، وإن طهران «ربّما تعمّدت خفض مستوى الردّ لتجنّب المزيد من التصعيد».

رغبة أميركية في لجم إسرائيل
أوحت التسريبات الصحافية التي أعقبت الهجوم بأن الرئيس الأميركي حثّ رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، خلال مكالمة هاتفية مدّتها 25 دقيقة سبقت انعقاد مجلس الحرب الإسرائيلي، على ضرورة «ضبط النفس». وذكّر البيت الأبيض، في بيان عقب المكالمة، بمدى أهمية الدعم الذي وفّرته الولايات المتحدة في التعامل مع جميع المُسيّرات والصواريخ الإيرانية التي هاجمت الأراضي المحتلّة، مشدّداً على أن التعاون العسكري الأميركي - الإسرائيلي شكّل «رسالة واضحة إلى خصوم إسرائيل بأنهم لا يستطيعون تهديد أمنها بشكل فعّال». لكن شبكة «إن بي سي» كشفت، نقلاً عن مصادر أميركية مطّلعة، أن بايدن أعرب أمام مسؤولي إدارته في الكواليس عن قلقه من أن نتنياهو «يحاول جرّ الولايات المتحدة بشكل أعمق إلى صراع أوسع» في الشرق الأوسط، مؤكدة أن هؤلاء «على دراية تامة بأن نتنياهو لديه حافز لمواصلة الأعمال العدائية، بغية الحؤول دون انهيار ائتلافه والهروب من استحقاق إجراء انتخابات جديدة». وبحسب الشبكة، فإنّ بعض كبار مسؤولي الإدارة «يشعرون بالقلق من أن إسرائيل قد تبادر إلى القيام بردّ فعل (عسكري) سريع ردّاً على هجمات إيران، من دون الأخذ في الاعتبار التداعيات المحتملة المترتّبة عليه».
إسرائيل ليست في وضع «مريح» أو «مثالي» لخوض حرب واسعة النطاق


في المقابل، رجّح محلّلون غربيون أن يسهم الهجوم الإيراني في إنهاء حالة التململ السائدة لدى بعض أعضاء الكونغرس من الديموقراطيين حيال مسألة الإمدادات العسكرية الأميركية لإسرائيل على خلفية الحرب في غزة، وتوهين ذرائع الجمهوريين في استمرار تعطيل مشروع قانون يشمل دعماً عسكريّاً وماليّاً لكييف وتل أبيب. واعتبر هؤلاء أنّ الداعمين لإسرائيل تحت قبّة «الكابيتول»، سيعمدون إلى تصوير أيّ قيود على التسليح الأميركي للكيان، على أنها إهمال للهواجس الأمنية للحليف الرئيسي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، في مواجهة إيران. وفي هذا الإطار، توقّف مراقبون عند مطالبة السيناتور الديموقراطي، كريس كونز، مجلس النواب، بتمرير مشروع القانون المذكور خلال الأسبوع الجاري، وتبريره دعوته تلك بـ»ضمان حصول حلفائنا الإسرائيليين على كل ما يحتاجون إليه للدفاع عن أنفسهم من هجمات إيران ووكلائها»، وهي دعوة أيّده فيها زعيم الأغلبية في مجلس النواب عن الحزب الجمهوري، ستيف سكاليز، الذي أكّد أن المجلس سيعدّل في أجندته التشريعية، ويعمد إلى تأجيل البتّ في بعض مشاريع القوانين المعلن عنها مسبقاً، لمصلحة إقرار «التشريع الذي يدعم حليفتنا إسرائيل». وفي ضوء ما سبق، قال العقيد المتقاعد في الجيش الأميركي، والأستاذ المشارك في «مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الأمنية» التابع لـ»جامعة الدفاع الوطني»، ديفيد دي روش، إن الخطوات التالية لوزارة الدفاع الأميركية «ستشمل على الأرجح إعادة تجديد مخزونات إسرائيل من صواريخ الدفاع الجوي، إلى جانب تعزيز تبادل المعلومات الاستخبارية، وربما، دعم قدرات الحرب الإلكترونية لدى الجانب الإسرائيلي».
على أنه في الصورة الأعم، ومن منظور صحيفة «ذا غارديان»، يمكن واشنطن على المدى القصير أن تتنفّس الصعداء، بفعل بعض المؤشرات التي تشي بأن الردّ الإسرائيلي سيكون «محدوداً»، ومن جملتها ما رشح عن المحادثات الهاتفية التي جرت بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، ونظيره الإسرائيلي يوآف غالانت، الذي اكتفى بالتأكيد «أن المؤسسة العسكرية مستعدّة لأيّ محاولات أخرى لمهاجمة إسرائيل»، من دون الإشارة إلى أيّ ردّ فعل تعتزم قواته القيام به. وبحسب الصحيفة، فإن «المؤشر الإيجابي الآخر»، هو تعهّد مسؤول إسرائيلي لإحدى وسائل الإعلام الأميركية، بأن «ردّ إسرائيل سيتم تنسيقه مع حلفائها»، فيما من المرجّح أن تعمد واشنطن خلال الساعات والأيام المقبلة إلى أن «تقنع إسرائيل بالمكاسب التي حقّقتها بفعل تمكّنها من الصمود في وجه ردّ فعل إيران الساخط وتجاوزه، من دون أن يلحق بها ضرر إلى حد كبير».

سيناريو الحرب الإقليمية ليس «مثالياً» لإسرائيل
وفي ظل صعوبة الخيارات الإسرائيلية في ضوء الاقتدار الإيراني، والرفض الأميركي، شدّد الرئيس السابق لقسم تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الإسرائيلية ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، إيران عتصيون، على أنه «من المهمّ للغاية التمييز بين مستوى التصعيد الذي شهدناه حتى الآن واحتمال نشوب حرب إقليمية لا يريدها أحد، على الأقل رسمياً». ولفت إلى أن هناك «فرصاً جيدة» لإمكانية منع توسّع الحرب، مشيداً بجهود الإدارة الأميركية في تفادي هذا التوسع، على رغم انخراط قواتها بشكل متزايد في معارك مع بعض الفصائل المدعومة من طهران، في العراق وسوريا واليمن، وفق تعبيره. وزاد أن «الأمر يتطلّب القيام بالمزيد من الجهود من جانب الإدارة»، منبهاً إلى أن إسرائيل ليست في وضع «مريح» أو «مثالي» لخوض حرب واسعة النطاق، بينما لا تزال متورّطة في صراع في غزة من دون تحقيق نصر حاسم هناك، مشيراً إلى أن «الاقتصاد في أزمة، وعلاقاتنا الخارجية في أزمة، والوضع الإنساني في غزة مروّع، فيما نحن نتلقى ضربات متعدّدة على جبهات متعدّدة»، ليخلص إلى أنه «ليس الوقت مناسباً لشن حرب إقليمية واسعة النطاق من وجهة نظرنا».