فيما كانت الأجواء السياسية والإعلامية في إيران في حالة من الترقّب والخوف والرجاء إزاء نوع الردّ على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، تركت العملية التي شنّها «الحرس الثوري» ليل السبت - الأحد ضد إسرائیل، أثراً واسعاً في الشارع الإيراني، حيث أُثيرت آراء كثيرة حول أبعادها وعواقبها.وبالعودة أسبوعين إلى الوراء، حين شنّت إسرائيل هجومها على القنصلية، خرجت في حينه رؤى ووجهات نظر مختلفة في الأوساط السياسية والإعلامية الإيرانية حول أفضل الطرق للردّ على إسرائيل، إذ رأى البعض أن تل أبيب، وعلى وجه الخصوص رئيس حكومتها، بنيامين نتنياهو، يريد الخروج من مأزق حرب غزة من طريق زيادة التصعيد مع إيران، وأنه يتعيّن على هذه الأخيرة ألّا تقع في الفخّ، وأنه لا بد لها من أن تستمرّ في انتهاج سياسة «الصبر الاستراتيجي». في المقابل، رأى البعض الآخر أن هذه السياسة لم تَعُد فاعلة بما يكفي، وأن إسرائيل، بمواصلة هجماتها على العسكريين والمواقع الإيرانية، تكون قد انتهكت الردع الإيراني، ما يوجب الردّ عليها بحزم، حتى تكفّ عن التمادي في غيّها.
وإذ سعت إيران، خلال الأيام الأولى، للإفادة من الأدوات الديبلوماسية وتقديم الاقتراحات لأميركا بما في ذلك «وقف إطلاق النار في غزة، مقابل عدم الردّ العسكري الإيراني على إسرائيل»، وذلك سعياً لتفادي المزيد من التصعيد، لكنها وبعد عدم تلقّي ردّ واضح، اضطرّت إلى التحرك في اتّجاه العمل الثأري. وهكذا، أصبح الرّد العسكري الإيراني حتميّاً، بعد الكلمة التي ألقاها المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي الخامنئي، في خطبة صلاة عيد الفطر في طهران، الأربعاء، واعتبر فيها الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق «هجوماً على الأراضي الإيرانية»، مؤكداً أن إسرائيل «ستُعاقَب». ورأى مراقبون، من جانبهم، أن هذه التصريحات كانت إيذاناً وإيعازاً بشنّ الهجوم على إسرائيل.
وعلی المستوی الشعبي، شهدت مختلف المدن في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فجر أمس، مسيرات حاشدة نظّمها المواطنون الإیرانیون ابتهاجاً بهجمات «الحرس الثوري» على أهداف في الأرض المحتلّة. ووفق وکالة «إرنا» الرسمیة، فإن أهالي طهران بدأوا في التجمّع في ساحة فلسطين بعد سماعهم أنباء عن بدء العمليات التأديبية ضدّ الكيان الصهيوني، وذلك للإعراب عن إسنادهم وشكرهم لعمليات قوات «حرس الثورة». وأفادت تقارير المراسلين من مختلف مدن إیران، ومن ضمنها قم وأصفهان ومشهد وشيراز وأهواز وتبريز وارومية وكرمانشاه وغيرها، عن تنظيم مسيرات احتفالية مماثلة ابتهاجاً بهذه العمليات وإعلان التأييد والدعم لها.
«سياسة الجمهورية الإسلامية ليست توسيع الحرب، ولكن عندما يسعى العدوّ إلى توسيع الحرب سوف تردّ»


وعن دلالات الردّ، يقول العديد من السیاسیین والمحلّلين في إيران إن ما قامت به الجمهورية الإسلامية كان «ردّاً» على العدوان الإسرائيلي، وليس «هجوماً». وقال وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أمس، إن «ردّنا المحدود في سياق دفاعنا المشروع لمعاقبة الكيان الصهيوني، يدلّ على أنّنا لم نحدّد أيّ أهداف غير عسكرية، وأن القوات المسلّحة الإيرانية لم تستهدف أيّ مركز اقتصادي أو اجتماعي في هذا الردّ». وفي السياق نفسه، كتب محلّل القضايا الدولية، رضا نصري، في تغریدة عبر منصة «إکس»، أن العمل العسكري الإيراني لم يكن «انتقاماً»، بل «دفاعاً مشروعاً» واستند إلى مبدأي «التناسب» و»الضرورة». وأضاف: «إيران استهدفت أهدافاً عسكرية فقط، وعلى عكس إسرائيل، لم تستهدف أيّ منازل سكنية مدنية أو مستشفيات أو مدارس أو کنائس أو مخابز أو خزانات مياه أو صحافيين أو سيارات إسعاف». كذلك، يعتقد مراقبون في إيران أن الهدف الرئيسيّ لهجمات «الحرس الثوري»، هو استعادة قوّة الردع الإيرانية، التي شوّهتها الهجمات الإسرائيلية ضدّ القوات والمواقع الإيرانية في سوريا في الأشهر الأخيرة. وكتب الصحافي الإصلاحي، آرمان منتظري، فی تغریدة: «هذا الهجوم الواسع يُظهر أن إيران تريد إرسال رسالة غضب وردع، وفي الوقت نفسه تجنّبت إيران إلحاق الضرر بالبنية التحتية المدنية، ما يعني أنها لا تريد المزيد من التوتّر».
ويعتقد العديد من المراقبين أن إيران، بهجومها الأخير على إسرائيل، تخلّت عن سياسة «الصبر الاستراتيجي» ودخلت مرحلة جديدة في توجّهاتها العسكرية سيكون ما بعدها مختلفاً عما قبلها؛ إذ أکد مساعد الرئيس الایراني للشؤون السياسية، محمد جمشيدي، أن «معنى عمليّتنا هو أن عصر الصبر الاستراتيجي على خبث كيان الاحتلال قد ولّى». وأضاف أن «المعنى الاستراتيجي للعملية كذلك هو أن إيران هَزمت استراتيجيّتهم القائمة على الحرب بين الحروب»، مؤکداً أن «المعادلة الاستراتيجية تغيّرت الآن، وأيّ استهداف للقوات الإيرانية أو ممتلكاتها سيقابَل بردّ مباشر». بدوره، قال الصحافي الإيراني المقرّب من «فيلق القدس»، سعد الله زارعي، في تصریح إلى «تلفزيون إيران»، إن «الأحداث الأخيرة في المنطقة أظهرت أن ضبط النفس الذي تمارسه الجمهورية الإسلامية لم ينجح، ووضعت إيران في موقف يتعيّن عليها فيه الردّ، ولهذا السبب نفّذت العملية». وأضاف: «سياسة الجمهورية الإسلامية ليست توسيع الحرب، ولكن عندما يسعى العدو إلى توسيع الحرب سوف تردّ».
ورأى نائب وزير الخارجية الإيراني السابق، حسين جابري أنصاري، من جانبه، أنه «بمثل هذا الهجوم الضخم، اتّخذت إيران خطوة كبيرة نحو إرساء قواعد ونظام جديد في وجه إسرائيل وفي ميزان القوى في الشرق الأوسط أیضاً. ومن اليوم، نحن نواجه شرق أوسط جديداً». وأضاف: «من الناحية النظرية، يمكن أن يكون مدى الردّ الإيراني هو الأساس لخلق الشرعية الدولية من قِبَل القوى العالمية لدعم رد إسرائيل المباشر على إيران، ولكن من الناحية العملية، ما يمكن أن يؤدي إلى احتواء إسرائيل هو الحقائق والقوّة الدفاعية الواسعة لإيران، والتي شوهدت بوادرها مساء السبت».