فيما كان وزراء العدو على اختلاف توجّهاتهم يتوعّدون إيران بالرّد وإعلان «تحالف دفاعي إقليمي» لمواجهتها، مثلما فعل وزير الأمن يوآف غالانت، ووزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، الذي دعا إسرائيل إلى أن تتصرّف بـ«جنون» لخلق قوّة ردع في الشرق الأوسط، وزميله وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، الذي طالب من جهته بعدم التردّد في الهجوم، استحضر محلّل الشؤون الاستخبارية في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، رونين بيرغمان، الشعار الذي وزّعته منظومة الدعاية البريطانية على شعبها في خضمّ الحرب العالمية الثانية عندما كان ونستون تشرشل رئيساً للوزراء، ويقول «Keep Calm and Carry On»، داعياً القادة الإسرائيليين، وفي مقدّمهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، إلى التعقّل وأن يحذو حذو تشرشل، أي الإصرار على تحقيق أهداف الحرب بصبر وحكمة.ونقل بيرغمان، المقرّب من الأوساط الاستخبارية، عن مصدر مطّلع على ما دار في غرف النقاشات السرية، قوله: إنه «إذا صوّرت النقاشات التي دارت في الكابينت حول الردّ على إيران، وبُثّت على يوتيوب، سنرى 4 ملايين إسرائيلي في مطار بن غوريون يحاولون إيجاد طريق للهروب». وكان الهلع تفشّى حتّى قبل تكشّف مضامين تلك الجلسات، وهو ما تجلّى على محرّك «غوغل»، حيث وصل البحث عن كلمتَي «تهيليم» و«هتيكون هكلالي»، وهما الاسمان العبريان لمزامير داوود، إلى القمّة في الساعة 01:48 ليل السبت - الأحد، طبقاً لما أظهرته البيانات الرقمية في إسرائيل. والسبب في ذلك يعود إلى الإيمان بقوّة «التهيليم» في تحقيق النجاة من الخطر والضيق، علماً أن «الكابالاة» تحظر قراءتها ليلاً، فيما تسمح بهذا في الأوقات الصعبة استثنائياً، وهو ما فعله الإسرائيليون طالبين من الرّب أن ينجيهم من صواريخ إيران.
وبالعودة إلى بيرغمان، الذي نشر تقريراً ثانياً أمس عنونه بـ«ليلة الهجوم الإيراني هي معجزة إبريق زيت بايدن»، في إشارة إلى إحدى عجائب «الحانوكا»، والتي كان يُفترض فيها أن يَفرغ إبريق زيت بعد إشعال الشعلة في الليلة الأولى، ولكنه استمر لثمانية أيام بـ«معجزة»، فإنه يرى أن الولايات المتحدة تستمر في إنقاذ إسرائيل بالرغم من كل التوترات التي فاقمها أداء نتنياهو، مشيراً إلى أن الأخير كان يعتزم الرد على الهجوم الإيراني «خلال ساعتين» بهجوم «كبير جداً». وفي حين أن إسرائيل لم تفعل ذلك، فإن هذا لا يعني بحسبه أنها لن ترد، و«لكن في الوقت الذي لا تزال تتعالى فيه في المجلس الوزاري أصوات داعية إلى رد عسكري مباشر وعلني، من الواضح أنه كلما مر الوقت يجب أن يكون هذا الرد مقلّصاً أكثر، في حال شنّه أصلاً».
في المقابل، فإن إيران نجحت، بحسب بيرغمان، في أمرين؛ الأول: «توليد أجواء هستيرية في صفوف الإسرائيليين، حتى قبل أن تطلق رصاصة واحدة. والثاني: الانتقام لاغتيال الجنرال في الحرس الثوري الإيراني، محمد رضا زاهدي (حسن مهدوي)». أمّا فشلها فتمثّل في أنها لم تنجح في التسبب بأضرار، أو في تعميق الخلافات بين تل أبيب وواشنطن. لكنّ إسرائيل «فشلت، من جهتها، في توقع نتائج الاغتيال في دمشق، وكذلك في الاستعداد لحقيقة أن إيران تشكل تهديداً كبيراً على إسرائيل، ليس في المجال النووي فقط، وإنما في المواجهة» المباشرة، وفق المحلل نفسه، الذي رأى أن «المنتصرين الكبار هم الأميركيون، الذين دخلوا متأخرين، عندما اعتبروا أن الرد الإيراني المتوقع نوع من مسألة وجودية، وأدركوا قوة النوايا الإيرانية، وانعدام الجهوزية الإسرائيلية»، وهو ما أثار «تخوّفهم من أن عدم وقوفهم بوضوح إلى جانب إسرائيل سيُفسر بشكل سيّئ في دول أخرى، على رغم أنهم لم يرغبوا في التورط في حرب مع إيران».
فشلت إسرائيل في «توقع نتائج الاغتيال في دمشق»، وكذلك في الاستعداد لحقيقة أن إيران تشكل تهديداً كبيراً عليها


وبناءً عليه، «خاض الأميركيون عملية مُركّبة: من جهة، مارسوا ضغطاً بالغاً على إيران لشن عملية عسكرية بإمكان إسرائيل احتواؤها، ومن الجهة الثانية جيّروا التعاون مع فرنسا وبريطانيا والأردن ودول أخرى، ومن الجهة الثالثة، مارسوا ضغطاً كبيراً على إسرائيل كي لا ترد بشكل عشوائي». وفي المحصّلة، نجحت الولايات المتحدة بحسبه في صنع المستحيل؛ إذ «بإمكان إيران القول إنها حققت هدفها»، كما بإمكان إسرائيل التي «لم تتعرض لضرر كبير، التباهي بإنجازات سلاحها الجوي». لكن «هذه كانت جولة واحدة فحسب في حرب طويلة بين إسرائيل وإيران، خرجت منذ مدة من الظلال وهي تدور في جميع أنحاء الشرق الأوسط» بحسب بيرغمان، الذي رأى أن «بايدن يبدو أشبه بإبريق الزيت، مقابل نتنياهو الذي يهينه ويعارضه علناً»، داعياً إلى «الاعتراف بالجميل تجاه الذي من دونه كان وضعنا سيكون أسوأ بالفعل».
من جهته، وصف الجنرال المتقاعد، ومفوّض شكاوى الجيش سابقاً، يتسحاق بريك، إسرائيل بأنها «سفينة تبحر وسط عاصفة شديدة قد تغرقها إلى الأعماق»، مشيراً، في مقالة في صحيفة «معاريف»، إلى أن «مقود» إسرائيل يحركه «ثلاثة قباطنة، منطفئو الروح، وتحركهم غريزة الانتقام وإنقاذ كرامتهم بعد الضربة الشديدة التي أنزلوها على مواطني الدولة في السبت الأسود»، في إشارة إلى هجوم «طوفان الأقصى». وبحسبه، فإن هؤلاء القباطنة «يتخذون قراراتهم من دون الأخذ في الحسبان العواقب التي من الممكن أن تترتب عليها، ومن دون أدنى شعور بالمسؤولية». والقبطان الأول هو نتنياهو الذي «تحركه اعتبارات صراع البقاء السياسي وليس اعتبارات أمن الدولة»؛ والثاني هو وزير الأمن، يوآف غالانت، «الذي يعمل في واقع متخيّل منذ بداية الحرب»، فيما الثالث ليس إلا رئيس الأركان، هرتسي هليفي، «الذي يشد بالخيوط أولئك الذين يرأسونه كدمى أطفال وينفذ أي شيء وفق أهوائه». وإلى هؤلاء، انضم وزير مجلس الحرب، بيني غانتس، «الذي بدلاً من أن يُحدث توازناً بين الثلاثة، تحوّل إلى الساحر الذي يخدم سيده، رئيس الوزراء»، كما قال بريك، مضيفاً أن «هؤلاء الأربعة قد يضرمون حريقاً كبيراً في الشرق الأوسط»، موضحاً أنه «بعد نصف عام من حرب استنزاف ضد حماس وحزب الله لم يحقق الجيش الإسرائيلي فيها أهدافه: لم يدمر حماس ولم يحرر المختطفين، تقرر ثلة القباطنة فتح جبهة إضافية ضد إيران».
وحذّر من أن «مجموعة القباطنة، الذين فقدوا كل ما تبقّى من المسؤولية الوطنية، سيتخذون المزيد من القرارات بشأن الرد القوي الذي سيوصلنا إلى كارثة قومية»، مذكّراً بمطالبة هليفي وغالانت قبل نصف عام، نتنياهو، بمهاجمة «حماس» و«حزب الله» بالتزامن، و«لو تحقق مطلبهم، لكنا قد دخلنا في حرب إقليمية كانت ستدمر كل شيء جيد، ولكانت مناطق البلاد ستبدو تماماً مثل المدن المدمرة في قطاع غزة». وبناءً على ما تقدّم، فإن تدخّل بايدن «هو الذي بإمكانه لجم الرباعي الذي يفكر من بطنه وليس من رأسه»، فيما أي رد ستقدم عليه إسرائيل «ينبغي أن يكون منسّقاً بالكامل مع الرئيس الأميركي. وعلينا أن نتأكد من أن رد الفعل هذا لن يجرّنا إلى رد فعل آخر من الحرس الثوري. وهو ما قد يؤدي إلى اندلاع معارك في ست ساحات بالتزامن بمشاركة حزب الله. وبالتأكيد، نحن لسنا مستعدين لذلك»، بحسب بريك، الذي تابع أن «أي هجوم خطير على القواعد الأميركية في الشرق الأوسط يمكن أن يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة. وحتى لو تمكنّا من ضرب الإيرانيين بقوة، فإننا سنتلقى منهم أيضاً ضربة قوية تؤدي إلى دمار رهيب وخسائر فادحة».