لم تكن جامعة كولومبيا الوحيدة في تحرّكاتها الطلابية، لكنّ تحرّكات طلّابها شكّلت الصدمة الأكبر لصهاينة الحكم الأميركي، نظراً إلى موقع الجامعة الجغرافي على أرض الواقع، وموقعها الافتراضي بين الجامعات التي تخرّج النخبة الحاكمة في واشنطن في السياسة والقضاء والاقتصاد والثقافة وأدوات الاستعمار المباشر وغير المباشر. على أعلى المستويات، هناك ألكسندر هاميلتون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، والرئيسان فرانكلين وثيودور روزفلت، وصولاً إلى عرّاب الحروب المشتعلة على امتداد عالمنا العربي اليوم باراك أوباما. في وزارة الخارجية الأميركية، هناك خرّيجان من «كولومبيا»، قاتلتنا السابقة في عهد كلينتون مادلين أولبرايت، والمشارك في حرب الإبادة القائمة أنطوني بلينكن. في القضاء، هناك قضاة في المحكمة الأميركية العليا أمثال روث بايدر غينسبرغ. من عالم الاستغلال الرأسمالي، هناك ديفد روكفيلر ووارن بافت. بين خَدَمَة واشنطن في الخارج، يبرز الرئيس الأرجنتيني السابق ماوريسيو ماكري، الذي أعاد إغراق الأرجنتين في ديون خارجية بعد معركة ناجحة قادها البيرونيون ضد البنك الدولي وصندوق النقد على مدى عشرين عاماً، ميخائيل ساكاشفيلي، الذي وصل إلى حكم جورجيا على ظهر ثورة ملوّنة أيّام عزّ الثورات الملوّنة، والأفغاني أشرف غني الذي غادر قصر الرئاسة في كابل متدلّياً من دولاب طائرة عسكرية أميركية مهزومة. هذه، إلى جانب عدد كبير من أهل الاستعمار الثقافي في هوليود، هي عيّنة تاريخية من خرّيجي «كولومبيا». فماذا تفعل فلسطين في باحاتها؟
لم تكن جامعة كولومبيا الوحيدة في تحرّكاتها الطلابية، لكنّ تحرّكات طلّابها شكّلت الصدمة الأكبر لصهاينة الحكم الأميركي
هذا هو ما يجعل المشهد في «كولومبيا» موجعاً لنخبة واشنطن أكثر من مشهد مخيمات التظاهر في جامعات أخرى على امتداد الولايات المتحدة. خرّيجو جامعة كاليفورنيا - بيركلي المعتصمون سوف يصبحون مهندسين ومبرمجين بأغلبيتهم، وبعيدين كل البعد عن صناعة القرار في واشنطن، وسوف تبتلعهم غوغل وآبل وغيرهما من عمالقة «سيليكون ڤالي»، ولن يكون لهم صوت مهما اعتصموا اليوم. لكن «كولومبيا» و«يال» و«جورجتاون» غير. لذا ليس مستغرباً أن يُستدعى الحرس الوطني لقمع التظاهرات، رغم أن شرطة نيويورك أشرس وأشدّ تسليحاً من أغلب جيوش الأرض ولا تحتاج إلى مساعدة في قمع التظاهرات. في الماضي، عندما انتفضت جامعات أميركا ضدّ توسيع حرب فيتنام، كان السبب الرئيسيّ أن طلاب هذه الجامعات كانوا مطلوبين للخدمة العسكرية ولا يريدون تأديتها. اليوم، المشهد مختلف، فلم يعد هناك خدمة إجبارية في عسكر أميركا إلّا للمحرومين المحتاجين إلى منح دراسية أو إقامة وجنسية أميركية. المحتجّون اليوم هم من نخبة ستقوم بدور في السياسة والقضاء والاقتصاد والثقافة… والاستعمار. وحتى هؤلاء ضاقوا بتصرفات «إسرائيل» ذرعاً.
واشنطن الكهلة لا تعرف كيف تواجه حالة كهذه لأنها لم تعتدها. سوف يطيحون بنعمت شفيق ككبش محرقة، على أمل أن يخيفوا من بقي من الأكاديميين المحظيّين في المؤسسة، ويقفل الرئيس التالي أبواب الاعتراض كما حصل في جامعة هارفارد. لا يمكنهم الكفر بالتنوّع الذي طالما تغنّوا به، على الأقل ليس في نيويورك، فلا عودة إلى البيوريتانية الأنغليكانية التي أسست الجامعة. هنا لا بدّ من اقتراح نموذج ناجح لرئاسة جامعة أميركية نخبويّة، لا وجود لأيّ حراك ضد الإبادة بحق شعب غزة في حرمها. «لا حسّ ولا نسّ». فما رأيكم بمحمود عباس راس بيروت بديلاً من «مينوش»؟