كنتُ واضحاً في موقفي من أوسلو، كنت غاضباً وفجاً وأريد تحطيم العالم، إذ لم يكن عقلي يقبل أنه بعد كل الآلام التي مر بها الفلسطينيون، أن تنتهي الأمور على هذه الطريقة. وسط هذه المشاعر، دق الشاعر باسم النبريص باب بيتنا في أحد أيام عام 1994، وحين فتحت فوجئت به مع شخصين باللباس العسكري. لاحظ باسم النظرة الغاضبة في وجهي، فعرفني عليهما متأملاً أن يغير التعريف نظرتي هذه. قال " الشاعر نصر أبو شاور والكاتب عايد عمرو". بالطبع أدخلتهما وفي خلدي ان يحتسيا القهوة ويذهبا، ثم علقت بفظاظة: "شاعر ويرتدي بدلة عسكرية"؟ كان تناقضا لا أفهمه، وبالطبع كانا يمثلان بالنسبة إلي مجرد شخصين آتيين عن طريق أوسلو.أثار استقبالي الغاضب حنق عايد عمرو الذي وصفني لباسم بأنني شخص تافه، فيما صمت نصر وقال لعايد: بنشوف يا عايد.
نصر لم يتركني في حالي بالطبع، واظب على زيارتي، ومع الأيام أصبحت لا أتناول وجبة إلا ونصر وعايد معي! لقد اكتشفت فيهما رفضاً أكبر مما كنت أحمل، فضلاً عن الميزات الباقية في شخصيتيهما، وإن كانت علاقتي بنصر قد أخذت تتطور بسرعة مذهلة. حتى إنه أحضر زوجته وأولاده الذين أصبحوا يمثلون عائلة ثانية، نحسب حسابها في الأكل والحلويات، حتى لو لم يكونوا معنا. صار نصر أبو شاور الأخ الثالث، وزوجته وأولاده زوجة وأولاد أخ، بكل ما لهذا الوصف من استحقاقات.
كان يأتي باللباس العسكري فتراه أمي من بعيد، وتقول "هذا بيشبه الفدائية اللي كنا نغنيلهم، بينط عن الحيط بينزل واقف".
نصر كان ممن شاركوا في حرب بيروت، وكان موقعه عند السفارة الكويتية، ومن يعرف ما حدث في بيروت عام 1982 سيعرف أن السفارة الكويتية كانت خط المواجهة المباشر بين الجيش الإسرائيلي والمقاومين، بمعنى أنه لم يكن في بيروت ليسجل اسمه ويرحل، كما فعل الكثيرون.
اكتشفت في نصر شاعرا رائعا وقارئا نهما، ومحبا للحياة لا يجارى، وكنا نلتقي الشاعر الراحل محمد حسيب القاضي ونسطو على كتبه ثم نتقاتل فيما بعد من سيقرأه أولا. وما زلت احتفظ بعدد من الكتب تعود إلى مكتبة نصر أبو شاور. كتبه كانت دائما نادرة ومميزة، إضافة إلى ذلك كان لاعب زهر مجيدا، وكثيراً ما كنت أجبره على توقيع ورقة تفيد بأنني هزمته شر هزيمة.

حين بدأت الانتفاضة الثانية عام 2000، كان نصر مسؤولا عن معسكر للأمن الوطني في رفح، زرته أكثر من مرة هناك، نصف المعسكر للجنود، ونصفه الآخر مزروع بالحبق والورد والنعناع، وكان تعليقه: "أرأيت كيف يمكن للعسكري أن يكون شاعراً؟".
هذا المعسكر كان من أوائل المعسكرات التي دمرتها الآليات الإسرائيلية في أحد الاجتياحات لمدينة رفح، أما نصر نفسه، فقد خاض العديد من المواجهات مع قوات الجيش الإسرائيلي التي كانت تحاول اجتياح المنطقة التي تقع تحت مسؤوليته. اشتباكات حقيقية، كثيراً ما أجبرتهم على التراجع، وقد عرفت فيما بعد أن مسؤوله قدم 20 شكوى إلى الرئيس أبو عمار تتضمن تجاوزات نصر أبو شاور التي تمثلت في عدم الاستجابة لأوامر الانسحاب من وجه الجيش الإسرائيلي.
أذكر مرة أن ضابطا إسرائيليا أرسل إليه عبر القوات المشتركة آنذاك، أنهم سيدخلون إلى أطراف المدينة لمطاردة بعض المواطنين، وأن هذه المطاردة الساخنة مسموح بها للجيش الإسرائيلي بحسب الاتفاقية الأمنية، فكان رد نصر أبو شاور من كلمتين قبل أن يدير ظهره ويمشي: على جثتي!
رفض جميع العروض التي قدمت إليه ليخرج بعائلته من غزة إلى رام الله، إلى أميركا، إلى روسيا، وظل في غزة لأنه أحبها كما لو كانت موطنه الأزلي.
أثناء الاقتتال الذي جرى بين حركتي فتح وحماس، كان نصر في مقر السرايا، وقبل أن يستشهد بساعات قليلة، أجريت معه اتصالاً لأطمئن عليه. تنهد طويلا عندما سألته: ماذا ستفعل؟ قبل أن يجيب: "الله لحالو بيعرف". بعدها توجه إلى المنتدى حيث المقر السابق للرئيس عرفات، وهناك حيث هرب معظم القادة، مات نصر أبو شاور تحت روايات متعددة، منها أنه لم يحتمل الاستسلام فقتل نفسه، ومنها أن أحداً تولى تصفيته، إضافة طبعاً إلى روايات أخرى ما زالت معلقة إلى اليوم.
نصر لم يكن من النوع الذي يمكن أن أستوعب فجأة أنه لم يعد هنا. وأراهن أن عدد من اتصلوا بي لتعزيتي فيه، يكاد يفوق عدد الذين اتصلوا بأقربائه الحقيقيين. لم أكن أرد بغير كلمة واحدة: شكرا! فقد تحول رحيل نصر أبو شاور إلى رمز لرحيل عصر وقيم وثقافات ليحل محله غيره، لكن، صدقت أو لم أصدق، فإن نصر أبو شاور استشهد، ولم يعد يتحداني في قراءة الكتب أو لعبة الزهر، ولم يعد يتلمظ وهو يأكل المقلوبة من يد أمي، ولم يعد يدخل إلى مكتبتي إذا لم أكن في البيت ويسرق كتابا ويضعه تحت معطفه العسكري ويخرج، ولم يعد يتصل بصوته الأجش المعهود: "وينك يا زلمة زهقت من العسكر بدي حد أحكي معو في الثقافة".
عندما ذهبت إلى بيته وجلست على الدرج الخارجي، لم أحتمل حين أحضروه أن ألقي عليه أكثر من نظرة واحدة. رصاصة واحدة مسارها بين مؤخرة رأسه وفمه. عثر في جيبه على عشرين شيكلا حين استشهد، لكنه مات رجلا كما يموت الرجال، فالرجولة أن تموت وحيدا كما قيل.
في جنازته كنا عشرين شخصا، بما فينا زوجته وبعض أبنائه. لم تكن جنازة تليق أبداً به، هو الذي كان يرى فلسطين بالضبط كما كان يرى ابنته ماريان.
*(مقتطفات من كتاب تحت الطبع)
انسرت: كنت أجبره على التوقيع أنني هزمته شر هزيمة